الجمعة، 9 يوليو 2010

لماذا يتمسك رجال الشرطة بلقب الباشا


لماذا يتمسك رجال الشرطة بلقب الباشا
هل ألغى عسكر يوليو الألقاب أم فقط أمموها لصالحهم

 باشاوات ....................وباشاوات
نعلم جميعا أن جمال عبد الناصر كان مغرما بالقرارات الشعبية التى تجلب له التصفيق مثله في ذلك مثل ممثل المسرح الذي يشعر بالغربة عندما يتوقف الجمهور عن التصفيق وكان من ضمن القرارات التى أصدرها تسولا لبعض التصفيق هو قرار إلغاء الألقاب
إلغاء الألقاب في ظل ثورة بدأت مدعومة أمريكيا أملا في وراثة الإستعمار البريطاني القديم ثم تحولت بعد جولة قصيرة في أحضان الإخوان إلى ثورة تستنسخ الثورة الروسية في نسخة مشوهة قائمة على بعض العسكر محدودي الثقافة لا يستطيعون الفكاك من ذكريات وقوفهم أمام الباشوات في انتظار نظرة رضا لذلك كان من الطبيعي أن يسارع ناصر القادم من أعماق الصعيد وإبن الموظف البسيط إلى إلغاء الألقاب بجرة قلم
الثورة ظلت لفترة تبحث عن ألقاب بديلة مثل السيد والسيدة إلا أنها ألقاب لم تصمد على عكس الثورة الفرنسية التى أصبح اللقب الرسمي لها (المواطن) فأصبح النداء الحتمى هو المواطن الطبيب والمواطن الجنرال ، هي ثورة قدمت فكرة الوطن على فكرة الحقد الطبقى
وتستمر الأيام بنا ليخرج لنا باشوات وباكوات جدد فأصبح لقب باشا وبك هو اللقب الرسمي في تعاملات ضباط الشرطة سواء بينهم وبين المواطنين أو حتى بينهم وبين أنفسهم وحتى أثناء سماعك للنداءات الصادرة عن اجهزة اللاسلكي المعلقة على موتوسيكلات ضباط المرور تصدمك أن الإشارات تصدر مذيلة بلقب بك وباشا رغم أن ضباط الشرطة تحديدا لم يكونوا من المميزين اجتماعيا قبل الثورة فكان من الضروري أن تكون (إبن ناس) حتى تقبل في المدرسة الحربية بينما ظلت كلية الشرطة متاحة أمام صغار الموظفين لكن يبدو أن ضباط الشرطة قرروا ضمن سلسلة تحقيق المكاسب أن يحصلوا على الألقاب كغنيمة حرب


وإذا كان الخديوي إسماعيل دفع نحو 32 ألف جنيه قبل ما يزيد على 140 سنة ليحصل على لقب «خديوي» من السلطان العثماني لشعوره بأن لقب «والي» لا يناسب موقعه وأهميته فإن باشوات الزمن الجميل الذي قضى عليه ناصر وعسكره كانوا لا ينالون لقب بك أو باشا إلا في ظروف خاصة جدا أو نتيجة لجهد مبذول وحتى في حالات التردي المحدودة كان الثمن بعشرات الألاف أما ضباط الجيش وهم في ذلك الوقت كانوا أولاد عائلات لها اسمها فكان لقب باشا يمنح بالتوازي مع رتبة اللواء  لكن الآن فكل المطلوب حاليا للحصول على لقب بك ثم باشا هو مجموع متواضع في الثانوية العامة وأربع سنوات بين أسوار كلية الشرطة ثم تنال لقب بك وبعد قليل مبروك عليك لقب باشا
باشاوات الزمن الجديد ينزعجون جدا إذا خاطبهم أحدهم برتبته المجردة كأن تقول النقيب فلان أو تحدث احدهم قائلا : يا عقيد فلان ويعتبرون ذلك انتقاصا من مركزهم رغم أن مركزهم في النهاية هو رتبتهم الرسمية التى لا تعطيهم الحق في المخاطبة بأكثر من ذكر الرتبة الحاصلين عليها ولا أدري لماذا سر هذا التمسك بألقاب من المفترض أنهم يحمون نظاما قد ألغاها ولم يصادرها لصالحه وإلا فقد كان من الأولي أن يترك النظام الألقاب لأصحابها الحقيقيين
قرب منزلي القديم وبينما نستعد أنا وأقراني لإختبارات الثانوية العامة كان من الطبيعي أن تنجمع أحيانا فترة بعد الظهيرة ، نقف معا على ناصية الشارع ، نلهو ونتحدث ولم يكن الأمر يحتاج في هذا الوقت إلى أن تصل الليل بالنهار للحصول على 100% لتدخل كلية الأداب وكان المجموع المقترب من ال 70% كافيا لترشيحك في المرحلة الأولي
كنا نلهوا قليلا ونذاكر قليلا بينما في أحد المنازل أو بالأصح في بدروم أحد المنازل كان يقطن فتى في مثل عمرنا والدته سيدة متواضعة الحال للغاية تبيع كل شئ في المنزل لتحافظ على فرصة لإبنها ليلتحق بإحدي الكليات وكان الفتى يصل الليل بالنهار أملا في تحقيق طموح الأم الذي لم تفصح عنه مطلقا وكان يتحاشي الحديث معنا وحتى عندما كان يحدث لماما أن يتحدث إلينا كانت والدته تنهره بحجة أن (وراه مذاكرة ، أنتم أهاليكم يقدروا يشيلوكم لكن الغلبان ده مالوش غير ربنا) وكان الفتى يسير على خطوات والدته تماما وأكثر من ذلك فقد ارتاح لي ذات مرة وقال وأنا أنقل الأن من الذاكرة: مش صح إني أقعد معاكم خلينى مداري
لم أفهم ربما بسبب السن وربما لبعد المعنى ماذا يعنى لكنه أوضح: انت أبوك بيخليك تسوق عربيته لما تذاكر شوية و مدحت ولا تفرق معاه لكن أنا وسطكم حتعقد وأنا مش ناقص بس خلي بالك أنا حأبقى حاجة تانية خالص وممكن كمان أبقى زي أبوك
كان كلامه في جملته الآخيرة محملا بطاقة لم أفهمها فهي مزيج بين الحسد والتحدي وتجاهلت الأمر إلى أن ظهرت نتائج الثانوية العامة وبدأ كل من أقراني في الترشح لإحدي الكليات في الوقت الذي كان الفتى قد اختفي تماما فلم نعد نشاهده ولم نشاهد مظاهر نجاح ولا (زغاريط) في منزله ونسينا أمره تماما إلى أن التحقنا بالجامعات وذات مرة أثناء عودتى بعد يوم طويل في الجامعة وبينما أهم بركن سيارتي وجدته أمامي مبتسما في تحدي لم أفهمه لأن كل ما لفت نظري أنه يرتدي بدلة عسكرية لا أعلم إلى أي سلاح أو كلية تنتمى
اقترب من سيارتي بهدوء واثق ثم قال : انت لسه في راجع من الكلية ...انت دخلت كلية إيه
لم أجبه بل سألته : انت دخلت كلية ايه
أجاب بزهو: شرطة
قلت مسرعا: ليه كده بس الحبسة دي وبعد كده تروح الصعيد طب كنت ادخل جوية ولا بحرية
أجاب بزهو: لأ ..دي سلطتها أكبر كتير وبكره تحتاجنى وتشوف
لم أكن على استعداد للوقوف معه أكثر من ذلك فهو في النهاية لم يكن صديقا لأي منا لذلك أغلقت باب السيارة وتجاهلته وتوجهت نحو حديقة منزلي لكن قبل أن أدخل الى المنزل اختلست نظره إليه فوجدته لم يواصل السير إلى منزله البعيد بعض الشئ بل توقف بزهو أمام مدحت وتجاذب معه أطراف الحديث وعلمت بعد ذلك أن حديثا مشابها لحديثه معي دار بينه وبين مدحت الذي اختتم حديثه معه قائلا: تلاقيك عملت كده عشان تتوظف بسرعة والوالدة ترتاح شوية
لا أنكر أننا كلما التقيناه كنا نتركه يتصرف بزهو ثم نعاجله بعبارة أو بحديث يكسر زهوه فقد كان يستفزنا بزهوه الفارغ خاصة أننا جميعا كنا قد نشأنا في عائلات تتميز بقدر من الثراء وقدر من النفوذ ولا نعرف لماذا يصر على أنه قد أصبح شخصا ذو حيثية لمجرد أنه التحق بكلية لها زي رسمى
مضت الأيام وأصبحنا شبابا تخرج وبدأ حياته العملية ومنا من تزوج ومنا من سافر وفي أحد الأيام تقابلت مع مدحت صديق الشارع والصبا و تحدثنا عن الذكريات فقال متذكرا وهو يضحك: عارف فلان...تخيل لقيته فين ..بيشتغل في القسم اللي جنبنا هنا ، تقريبا قضي كام سنة برة المدينة ولما رجع رجع على القسم ده بالذات
تجاهلت الحديث عن هذا الفتى لكنه واصل: كاسيت عربيتى اتسرق روحت أعمل محضر لقيته في القسم ندهته بإسمه بصلي وعينيه بتطق شرار وعمل ميعرفنيش نديته تاني راح مقرب وخدنى معاه على مكتبه وقالي : أنا اسمي فلان باشا ، قلتله فلان باشا الله يرحم ، وساكن فين يا فلان باشا فرد مسرعا: أنا لسه منقول بس اشتريت شقة جنبكم
ضحك مدحت وهو يقول : اشتري شقة جنب بيت امه القديم بس في الدور السادس ، مش عايز يقعد في البدروم تاني

ربما كانت القصة طويلة لكننى من حقى أن أتساءل من أين أتى هذا الفتى بثمن هذه الشقة الجديدة ولماذا في هذه المنطقة تحديدا ولماذا يصر على أن ينادي بفلان باشا
كلها أسئلة تحتاج إجابات وتحتاج إلى العرض على طبيب نفسي متخصص لكي يفسر لنا الأمر
في قرارة نفسي أعتقد أن هذا الفتى مهما وصل من مراكز سيظل يتصرف وفقا لموروث ثقافي محدد لا ينسي خلاله أن والدته باعت كل شئ لتنفق عليه و أن سنوات اللهو ضاعت وهو يحاول أن يجد لنفسه مكانا بين أقرانه ووجد فرصته عبر السلطة التى تمنحها بدلة الشرطة واللقب الذي يتمسك به وهو لقب باشا لكنه حين يقابل من نشأ أمامهم يسقط الغطاء
هذا الفتى أدرك أنه فعل المستحيل لكي يقطن نفس المنطقة ولكن في الدور السادس هذه المرة لكنه سرعان ما باع شقته عندما أدرك أن معظمنا مازلنا نحتفظ بمنازلنا القديمة وأننا لا نستطيع أن نتعامل معه إلا وفق إدراكنا الخاص لحقيقته فلم يستطع واحد منا أن يناديه بلقب باشا كما أن معظمنا كان يتجاهله تماما وأكثر من ذلك فقد كان منا من يمنع أطفاله من اللعب مع أطفال هذا الباشا الجديد
هو بالتأكيد يسكن مكان آخر يمكن أن يحيا فيه بإعتباره فلان باشا لكن من داخله سيظل كما كان لكن أخيرا أدركت لماذا هذا التمسك بلقب باشا
بطبيعة الحال ليس كل ضباط الشرطة مثل النموذج الذي تحدثت عنه لكن هذا النموذج موجود وهو في النهاية النموذج الذي يتسبب في كثير من الأحيان في حرج لكل ضباط الشرطة بسبب عسفه في استخدام السلطة لأنها كل ما يملك من تاريخ وشخصية وأصبح الشك يراودنى حول فكرة أن تصبح كلية الشرطة هي إحدي كليات القمة التى تشترط إلى جانب مجموع كبير ولياقة جيدة مستوى إجتماعي مميز يكفل لنا جميعا أن يصبح ضابط الشرطة منتميا على الأقل إلى شريحة مرتفعة من الطبقة الوسطى تحميه عبر ما ترسب في ذاكرته من سلوك أي مسلك ناتج عن تطلع طبقى أو عنف مردوده منغصات الصغر
في إحدى أرقى دول العالم سويسرا راتب ضابط الشرطة( وهو بالمناسبة يتخرج برتبة جندي وليس ضابط ) هو أعلى الرواتب في الدولة ورغم كل الحديث عن الديمقراطية فإنهم ينتقون عناصرهم بعناية فائقة فتحرم فئات من المهاجرين والحاصلين على الجنسية من العمل في الشرطة كما أنهم ينتقون طبقات إجتماعية وتاريخ عائلي مميز ولذلك فكلما كنت أصطدم بمشكلة ولو حتى تخص أن سيارتي تعطلت أو ضللت الطريق كان الحل الأول الذي يتبادر إلى ذهنك هو البحث عن شرطي ففي وجوده لا توجد مشكلة دون حل والشرطي هناك ينظر له بمزيج من الإحترام والتقدير والرغبة في وجوده
هل يمكن أن يحدث هذا عندنا أم أن الأماني لم تعد ممكنة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق