السبت، 27 نوفمبر 2010

أمريكا التى تكرهونها وتحلمون بالهجرة إليها


أمريكا التى تكرهونها وتحلمون بالهجرة إليها


العلاقة بين المصريين وأمريكا علاقة لا يحكمها المنطق ولا الدين ولا يوجد لها تفسير يمكن أن تركن إليه ، مظاهرات وغضبات متصلة وأفلام تشبه مقالات الفترة الناصرية وربط يستعصي على الفهم بين كل ما يحدث على أرض مصر وبين الإرادة الأمريكية التى تسللت في وجدان المصريين إلى كل شئ بداية من السياسة إلى فراش الزوجية
مظاهرات لا تنقطع إلا لتبدأ بين حين وآخر سواء بسبب العراق وجوانتنامو أو بسبب غزة وفلسطين وباقي مفردات الخطابات الديماجوجية السياسية لأحزاب الأقلية المصرية التى تحاول دائما أن تصور نفسها على أنها المتصدي الأول والأخير للهيمنة الأمريكية على مصر
أفلام على طريقة (ليلة سقوط بغداد) تحذر بسذاجة لا مبرر لها من احتلال أمريكي منتظر لمصر وأفلام تتخذ العداء لأمريكا طريقا لصعود مخرجيها ومؤلفيها مثل (العاصفة)
وبعيدا عن السينما والفن الذي يجب أن نقرأ الشعوب من خلاله (في الأحوال العادية) ونزولا إلى الشارع المصري الملئ بمطبات الطريق ومطبات السياسة فكل شئ تراه أمامك له علاقة بأمريكا من قريب أو بعيد ، أيمن نور حصان أمريكا الأسود كما صور لنا البعض، الإخوان يديرون حوارات ويعقدون صفقات مع أمريكا كما يتسرب أحيانا، رجال الأعمال يفتحون طرق تجارية مع أمريكا عبر وساطة إسرائيلية كما يشاع دائما
 
المهم في النهاية أن كل شئ في مصر يمر من البوابة الأمريكية على الأقل من وجهة نظر رجل الشارع الذي يجأر بعداء غير مبرر لها وأحيانا ينجرف إلى مظاهرة أو مسيرة أو حتى جلسة على مقهي يعج بأنصاف المثقفين و مجتمع وسط البلد الذي أصبح مميزا بشعره المنكوش وحقيبة الكتف التى لا ندري ماذا يحملون داخلها وفنجان القهوة الوحيد الذي يحتسونه ليحصلوا على مقعد مدفوع الثمن على مقهي السياسة المصرية التى أصبحت مهنة من لا مهنة له
الجانب الآخر للصورة مثير للدهشة ويكفي أن تمر بالسفارة الأمريكية في أي وقت لتشاهد أعداد المصريين الواقفين على أبوابها يحضرون الصور الفوتوغرافية ومصاريف (الأبليكيشن) ورسوم المقابلة التى لا تستغرق أكثر من دقيقتين ولا ينتهى أحدهم من تقديم طلب هجرة إلا ليعود ليغير جواز سفره الذي يحمل علامة الرفض بجواز سفر جديد ليعيد المحاولة مرة أخرى وسط أحلام برنامج الهجرة العشوائية الذي يداعب الكثيرين
هل يكره المصريون أمريكا للدرجة التى تدفعهم للتظاهر ضدها واتهامها بأنها السبب في ضياع فلسطين التى لا تربطهم بها علاقة ثم يتهمونها بأنها السبب الرئيسي وراء الأزمة الإقتصادية في مصر والصراع في العراق كما لو كان العراق قد منح مصر شيئا غير النعوش العائدة بجثث القتلى من كل محافظات مصر
هل يحب المصريون أمريكا ويقعون في غرامها للدرجة التى تدفعهم إلى الوقوف في طوابير تستمر لساعات من أجل مقابلة لمدة دقيقتين مع موظفة صغيرة في السفارة الأمريكية
هل أمريكا هي قبلة المصريين أم مثار سخطهم ؟ تحديدا لن تعرف ولم يعرف أحد لكن المصريون يبدو أنهم أصبحوا أكثر شعوب الأرض طلبا للهجرة سواء لأمريكا أو غيرها ولعل مما يثير الدهشة أن دولة مثل (الرأس الأخضر) التى ربما تسمعون عنها للمرة الأولى حاليا بها أعداد من المصريين لا يمكن تصورها، أيضا دول مثل جنوب أفريقيا ومدغشقر وسوازيلاند بها جاليات مصرية ولا أدري كيف عثر عليها طالبي الهجرة المصريين على الخريطة مالم يكن الأمر هجرة من أجل الهجرة على طريقة فن من أجل الفن
أما ما قد يثير دهشتك أكثر فهو أن المصريين لا يستثنون أي مكان على وجه الأرض من محاولة الهجرة شرعية أو غير شرعية حتى إسرائيل التى ينادون كثيرا بالحرب عليها بينما كل بيت في مصر به من المنتجات الإسرائيلية ما لا يعلم ، الآن المصريون في إسرائيل يشكلون جالية حقيقية ويبدو أن عددهم مستمر في التزايد وسط مخاوف من بقايا الراديكالية المصرية من أن يمثل ذلك خطرا على مصر ، وأيضا مخاوف من اليمين الإسرائيلي من أن يمثل ذلك خطرا على إسرائيل ويبدو أن لا شئ يجمع اليمين الإسرائيلي مع اليمين واليسار المصري سوى نفس المخاوف ونفس لهجة الخطاب
المصريون يهاجرون إلى أين لا يهم وبكم لا أحد يسأل ومن اجل ماذا لا أحد يعلم خاصة أنهم حاليا لا يهاجرون من أجل المال لأنهم ينفقون على الهجرة والسفر أكثر مما قد يجنون من طريقة الإقامة التى سيقيمونها والأعمال التى سيكونون مضطرين للعمل بها
المصريون يبدو أنهم أصبحوا غير سعداء بالحياة على أرض مصر والسبب يبدو أنه قابل للتشخيص فبخلاف الأحوال الإقتصادية وعنق الزجاجة الذي نحاول المرور منه منذ عام 1952 دون أن ندرك أن عنق الزجاجة أصبح أكبر وأطول من الزجاجة نفسها فإن الهجرة ربما تعود لأن المصريون كرهوا شكل الحياة على أرض مصر
والحياة على أرض مصر بالفعل لا يمكن أن يعشقها أحد بداية من ممارسات اليمين الدينى التى تخيف الكثيرين حتى المتدينين من أهل مصر ، وممارسات أحزاب أصبح مؤخرا تلجأ إلى الإعلانات التليفزيونية للترويج لنفسها تماما كما تروج الإعلانات لمساحيق الغسيل والفوط الصحية ولكن تحت شعارات مختلفة مثل : آن الأوان لأ تطلع من حزب قوي ..... دون أن يكلف صاحب الإعلان نفسه عناء التفكير في شعار آخر لا يحمل لكمة قوى التى لا تعبر عن أي شئ له علاقة بالحزب الذي يتحدث عنه
أما وفقا لوجهة نظر الدولة الرسمية فمصر تحقق نموا إقتصاديا لا نراه لأننا لا نفهم في الإقتصاد ، ومصر حققت إنجازات فيما يتعلق بالصحة والتعليم لكن نحن من ننكر الجميل لأننا مثل القطط (بناكل وننكر) ومصر رفعت متوسط الدخل للفرد الذي أصبح يحاول حاليا المحافظة على قاعدة الثلاث وجبات اليومية
مصر التى يهاجر المصريون منها دولة خفيفة الظل يمكن أن تجد بها كل شئ بداية من سيارات المرسيدس التى يفوق عددها عدد سيارات المرسيدس في ألمانيا بلد المنشأ وفي نفس الوقت فبها من الشحاذين الواقفين على النواصي علانية أو الشحاذين الجالسين داخل الدواوين ينتظرون (حسنة أو قهوة ) من أي مواطن يمر بهم حتى تشعر أن الأمر لا يستقيم إلا عن طريق الشحاتة ومد اليد والسلف والدين
مصر عرفت طريق الهايبر ماركت لكنها تأبى أن تنسى بقال التموين وعرفت سلاسل المطاعم الشهيرة لكنها تشكو إرتفاع أسعار سندوتش الفول ، ومصر عرفت الموبايل وأدمنته هو ورناته بينما أصبحت شركة التليفون الأرضي تبحث عن من يدفع الفواتير فلا تجد سوى التجاهل من الجميع
مصر أدمنت وصلات النت الشرعية وغير الشرعية ووصلات الدش لكنها لم تحقق شيئا فيما يخص التجارة الإلكترونية ولم تستطع الحفاظ على مكانة الإعلام المصري التى يبدو أنها أصبحت تخص هيئة الأثار مثلها مثل الأهرامات وأبو الهول خاصة فيما يخص قطاع الأخبار الذي حافظ على تفوقه فيما يخص الأخبار (البايتة) وأخبار إفتتاح المجمعات الإستهلاكية وأكشاك توزيع الخبز
مصر التى نراها الآن هي مصر لا نعرفها ولم نعرفها من قبل وهي مصر التى تشعرك بالغربة داخلها بأشد مما تشعر بالغربة خارجها ولعل ذلك هو ما يدفع المصريين دفعا للهجرة عن بلد أصبحوا لا يعرفونه ولا يصدقون ما يسمعونه عنه من وسائل إعلامه ومن الفضائيات وحتى من المسنين المعاصرين لتاريخها
مصر أصبحت دولة تستعصي على الفهم وشعبها أصبح غير قادر على محاولة الفهم من الأساس فقرر أن يحاول فهم دول أخرى بعيدا عن علامة الإستفام التى أصبحت موضوعة بقوة على خارطة مصر من أقصاها إلى أقصاها ووسط كل ذلك فلا شئ يمكن أن تفهمه حول ظاهرة كراهية أمريكا والهجرة إليها والمطالبة بحرب إسرائيلية جديدة والجالية المصرية هناك والجهل بالجغرافية والتاريخ للقارة السوداء وأعداد المصريين في دول لم يسمع عنها معظم الناس
هناك قوة طرد جبارة تعمل داخل مصر تستمد طاقتها من كل شئ على أرض مصر وهي تدفع المصريين دفعا للهجرة سواء للأرض أو لأعماق البحار لا فارق فيبدو أن كثيرا منا أصبح يكفيهم شرف المحاولة حتى لو دفعوا حياتهم ثمنا لمحاولتهم الفرار من أرض مصر.

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مرفوع من الخدمة
تصميم : يعقوب رضا