الجمعة، 29 يناير 2010

الحقيقة وراء الغزو وليس الفتح العربي لمصر - سلسلة حلقات


اعتاد مؤرخي العرب على عادة مرذولة وهي ذكر أحداث مختلف عليها بإعتبارها مسلم بها وكانت هذه الطريقة فعالة بالفعل في جعل الكثيرين يأخذون ما يأتون به بإعتباره واقع لا يحتاج الى تدليل وكانت هذه طريقتهم الوحيدة في الحديث عن الغزو العربي لمصر


ربما كانت الكلمة صادمة بالنسبة لك فقد أحلوا كلمة الفتح بدلا من كلمة الغزو ثم استفاضوا في ذكر محاسنة وكيف كان المصريون يتلهفون على هذا الغزو ويطالبون به بإلحاح !!!




والحقيقة أنك لكي تعرف الكثير عن الغزو لابد أن تعرف الغازي وإذا عرفت هذا وذاك فلابد أنك واصل لا محالة الى كذب الاطروحة من اساسها لذلك سنبدا من الغازي

لم تكن مصر بحكم التاريخ وبحكم الجغرافية ذات اتصال مع شبة الجزيرة العربية إلا فيما ندر ولم يكن اهل مصر بمعتادين السفر الى هذه المنطقة المقفرة التى لا حاجة لهم بها لكن احد ابناء هذه الارض القاحلة كان قد زار مصر ضمن ما زار من مدن بحكم عمله بالتجارة التى كان يتداولها مع القصابة(الجزارة) ولم يكن هذا سوى عمرو بن العاص
وعمرو بن العاص قصة في حد ذاته فهو من المفترض انه ابن شرعي للعاص بن وائل ولكن ....ولكن كان هذا محل شك الى نهاية حياته وقد شكل ذلك العقدة التى حكمت حياته بعد ذلك وكانت ضمن اشياء اخري هي ما جر على مصر الغزوالعربي في النهاية
عمرو بن العاص كان ابنا لجارية سباها العاص بن وائل وقومه وقد تداول عليها الكثيرون بحكم انها امة وجارية وقد حدث ان ولدت الجارية بعد ذلك فسألوها ابن من هو فقالت ما معناه انها قد اتاها كثيرون منهم فانظروا من يشبه الطفل فردوه إليه وقد كان ان اتفق الجميع على ان الطفل قريب الشبه من العاص بن وائل فردوه إليه وهكذا اصبح عمرو هو ابنا للعاص ابن وائل بالترجيح وليس بالثابت الصريح وهو ما عرضه دائما لمعاملة سيئة من اخواته من ابيه ثم عرضه بعد ذلك للعديد من المواقف المحرجة بين العرب
ظل عمرو كشئ مما يطلق عليه في علم النفس (التعويض الزائد) يعتز بانتسابه للعاص بن وائل بشئ من المبالغة حتى انه لم يدخل للاسلام إلا بعد موت ابيه
ومع انضمامه لدولة الاسلام الجديدة وبحكم تكوينه الشخصي فقد وجد أن لا مكان له للمطالبة بالخلافة في يوم من الايام مع الطعن المتكرر في نسبه وكان لابد ان يجد ما يعوض طموحة الجريح فتذكر مصر
كان من الممكن ان يرفض الخليفة عمر بن الخطاب فكرة غزو عمرو لمصر لولا ان عمرو كان احد دهاة العرب فعرض الامر على عمر بن الخطاب بكثير من الترغيب وكثير من تقليل المخاطر وقد كان محقا في ذلك
كانت مصر قد تعاقب عليها الرومان ثم الفرس ثم استردها الرومان وكان والي مصر اللذي عرف بالمقوقس قد اخر اموال الخراج المصري او استقطعه لنفسه اثناء مكوث الفرس في مصر واصبح الان على وشك المحاسبة من الرومان القادمين لحساب الوالي المصري وفي هذه الآونة ظهر عمرو بن العاص اللذي اتفق مع المقوقس على غزو مصر وحمايتها بعد ذلك وهو ما وجد فيه المقوقس ما يوافق هواه ويدفع عنه الاذي
انطلق عمرو بن العاص لغزو مصر في جيش صغير في حدود الاربعة الاف مقاتل مدركا ان واليها سيسلمها اليه وقد كان فتسلم كل ما قابله من ارض مصر حتى وصل الى العاصمة حيث توجد الحامية الرومانية التى اعيته مقاومة الى ان سقطت بمساعدة جند الوالي المقوقس لكن مدنا مثل الاسكندرية اعيته الحيل امامها حوالي العام ولم تسلم الا بالحيلة والخيانة من بعض اليهود داخلها ممن فتحوا ابوابها مساء لدخول عسكر العرب
وهنا لابد من ذكر حادثة طريفة توضح ما كان من حال العرب في هذه الفترة فبعد ان استقر عمرو بن العاص بمصر تحدث رجال مصر مع المقوقس عن طبيعة اتفاقه مع عمرو بن العاص واتفقوا على ان يذهبوا إليه ليناقشوه في ان يأخذ خراج مصر هذا العام ويرحل من حيث اتى.
عندما ذهبوا اليه طلب منهم عدم الحديث في هذا الموضوع الى الغد حيث دعاهم الى غداء يقدمه اليهم هو وجنده فأجلوا النقاش لليوم الثاني ولبوا دعوته فوجدوا العرب قد نحروا جمالا صغيرة واخذوا ياكلونها على عادة العرب بأيديهم وما يتبع ذلك من تلوث ملابسهم وابدانهم اثناء الطعام بينما ملابسهم العسكرية التى لم تكن تخرج عن الجلباب الابيض وغطاء الرأس المكون من اي قطعة قماش يثبتونها بحبل خشن الى الرأس وحبل اخر على الوسط يضعون فيه سيوفهم
نظر رجال مصر الى حال عمرو وجنوده وقدروا انهم ان لم يوافق العرب على الرحيل فبإمكان المصريين مقاتلة هؤلاء الهمج وطردهم خارجا إلا ان عمرو بن العاص اخبرهم انه وجريا على العادة العربية فمازال امامهم يومان من الدعوات لابد ان يلبوها وقد قبلوا وفي اليوم الثاني فوجئ رجال مصر بأن العرب يلبسون ملابس اهل مصر ويأكلون أكلهم فانصرفوا وقد التبس الامر عليهم لكنهم عادوا في اليوم الثالث وهم عازمين على ان يطلبوا من عمرو الرحيل عن مصر
في اليوم الثالث حضر رجال مصر الى معسكر عمرو بن العاص فوجدوا عمرو بن العاص يرتدي زي القتال المصري وجنوده يرتدون مثله وقد تأهبوا للقتال ونظر عمرو إليهم وقال:
في اليوم الاول رأيتونا على حالنا في أرضنا ولم نملك من ارضكم شيئا وفي اليوم الثاني رأيتونا وقد تذوقنا طعامكم ولبسنا لبسكم وما ترونه اليوم هو حالنا حتى لا نعود الى ما رأيتونا عليه في اليوم الأول
وكان بالطبع كلامة هو القول الفصل فلم يكن من الممكن على من جرب حياة البداوة ثم وجد رغد العيش إلا ان يمتشق السيف دفاعا عن حياته الجديدة حتى لا يعود الى سيرته الاولى

ومما لا شك فيه أن عمرو بن العاص بعد ان استقر له الحال في مصر تغيرت فيه بعض الصفات فقد اظهر الكثير من بعد ذلك من الصلف في مواجهة امير المؤمنين عمر بن الخطاب فكان يؤخر عليه المدد اللذي صارت جزيرة العرب تنتظره من مصر كما أنه كان دائم المطالبة بأن يوليه عمر بن الخطاب على ولايتى الحرب والجزية وكان يردد دائما ان ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة

والحاصل أن عمر بن الخطاب قد آثر منذ البداية على ان يكون هناك شريكا لعمرو بن العاص في حكم مصر يقوم على ولاية الحرب او قل تسهيلا (وزارة الحرب في مصر) كي لا تكون كل الامور بيد عمرو بن العاص فقد كانت مصر على مر العصور باعثة بفكرة اساسية الى كل من يحكمها نائبا عن امبراطورية وهي فكرة الاستقلال بها.

ولعل اللافت للنظر انه بعد موت عمر بن الخطاب تم عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر لكنه وقد اصبح من اصحاب الاموال اشترى له ضيعة على حدود مصر في فلسطين وقبع بها يتسقط اخبار الحكم الجديد بمصر الى ان قامت الفتنة الكبرى وانقسم العرب الى فريقين احدهم يوالي عليا والاخر ضده ثم حدث ما حدث من مقتل عثمان واصبح معاوية هو المطالب بدم عثمان وارسل معاوية الى عمرو بن العاص ليساعده على حرب علي بن أبي طالب فقال له عمرو بن العاص وهو يعقد معه ما يمكن ان تقول عنه معاهدة او اتفاق :
اتري أننا نازعنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله إنما هي الدنيا فإن تقطع لي قطعة فيها و إلا لأنابذنك إياها .
وعندما سأله معاوية عن ماذا يريد أجاب :
ولاية مصر جامعة
وقد كان له ما أراد بحكم الاتفاق ثم كان ما كان من قتال الفريقين وخروج عمرو بن العاص لقتال علي بن ابي طالب كطلب على بدلا من قتال جيوش المسلمين ، اي ان علي بن ابي طالب طلب من معاوية ان يخرج اليه هو او من ينوب عنه ليتبارزا بدلا من ان يتبارز الجيشان فدفع معاوية بعمرو بن العاص اللذي تراجع امام علي اللذي كاد يفتك به لولا ان عمرو بن العاص استلقى على الارض كاشفا (سوأته) فأشاح على بن ابي طالب بوجهه ونجا عمرو اللذي اشار بعد ذلك بالتحكيم وما جرى بعد ذلك من امر ادي في النهاية الى مقتل علي واستتباب الامر لمعاوية وعمرو بن العاص بالتبعية .

والحقيقة ان مصر كانت حاضرة في حرب علي ومعاوية تماما كما كانت حاضرة قبل وبعد ذلك في كل ما يخص الدولة الاسلامية لكنها دائما كان حضور البلد المحتل التى يسعى من احتله لتغيير لغته دون ان يسعى لتغيير دينه فقد كتب احد الولاة عن مصر بعد ان اصبح دخول المصريين في الاسلام يقلل من مبالغ الجزية المفروضة على المسيحيين كتب لعمر بن عبد العزيز الخليفة في ذلك الوقت يقول:
إن الاسلام قد أضر بالجزية فإن تري ان نفرض الجزية على من اسلم فرضناها
أي ان الوالي كان يري ان اسلام اهل مصر قد قلل من جزية مصر وانه يقترح ان يفرض الجزية على المسلمين من اهل مصر وهو ما رفضه الخليفة عمر بن عبد العزيز وكان رفضه هذا الى جانب اشياء اخرى كثير منها يخص مصر ( على سبيل المثال طلب اليه ان يتأكد من اسلام المصريين حتى ترفع عنهم الجزية بختانهم فرفض قائلا: ان الله بعث محمد نبيا ولم يبعثه خاتنا) كان هذا الى جانب اشياء اخري سببا في ان عجل به البعض فمات هذا الخليفة اللذي حاول ان يكون عادلا .
إلا ان مصر لم تكن هادئة تماما طوال حكم العرب لها فقد قام اهل مصر بأكثر من 120 ثورة بين صغيرة وكبيرة على المحتل العربي وكانت بعض الثورات تستوجب تدخل دولة الخلافة بإرسال الجيوش لإخماد هذه الثورات خاصة ان المصريين ضاق بهم الحال حتى وصل الامر بهم الى ما اطلق عليه (سياسة الإلجاء) فكانوا يتنازلون عن اراضيهم عن طيب خاطر للعائلات العربية التى جاءت الى مصر حتى يخلصوا من الضرائب القاسية المفروضة على الارض ، كما ان ضريبة اطلق عليها حق الطريق كانت تخنقهم وضريبة حق الطريق هذه ببساطة كانت تتمثل في ان جابي الضرائب كان يجبي بجانب الضرائب المفروضة مبلغا من المال يمثل التكاليف التى تكلفها ليصل لتحصيل المال ممن تستحق عليه الضرائب
هذا الى جانب ختم البيعة اللذي اضطر المصريون الى ان يضعوه بالنار على اكتافهم ويثبت فيه رقم البيعة التى يعمل بها المصري واذا ضبط المصري خارج هذه البيعة كان يعاقب ، كان هذا ضمن اشياء اخرى جاءت فيما يمكن ان نطلق عليه (الديكريتو العمري نسبة الى عمر بن الخطاب) حيث اوصى بمعاملة المصرينن فلا يرتفع صوت اجراسهم ولا يجاورون العرب في الطرقات ولا يمتطون الخيول وحدد لهم الوان محددة للملابس وان يلبسوا احذيتهم معكوسة وهو ما اطلق عليه (خلف المركوب) وارتداء النطاق كتمييز لهم عن العرب ومنعوا من ارتداء العمائم الملونة التى اصبحت حكرا على العرب.
كان الديكريتو العمري مثالا على سياسة تفرقة عنصرية تصبح بالنسبة اليها ما عرف عن حكم الجنوب افريقيين بمثابة جنة حقوق الانسان اذا ما قيس بما اتبعه العرب في تعاملهم مع مصر التى وصفها عمرو بن العاص قائلا:
اننى كمن يمسك البقرة من قرنيها ليحلبها غيره
ولعل افضل ما عرض لهذا الموضوع هو كتاب العلامة عباس محمود العقاد عن عمرو بن العاص ويمكنك تحميل الكتاب من خلال الرابط التالي






وسنتابع بعد هذه الحلقة عرض المزيد عن فترة الحكم العربي لمصر وأن كنت اطلب منكم ان تقولوا رأيكم في هذه المقالة تحديدا كي اتمكن من اتمام ما بدأت 

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مرفوع من الخدمة
تصميم : يعقوب رضا