التكفير في ميزان العقل و الدين
بقلم:د سيد القمني
بعكس طموحات الإنسان في العالم كله ، يطلب رجال الدين المسلمين من المسلمين هجر العقل البشري إلى الطاعات ، و يصفونه بالقصور لأنه ليس بإمكانه إدراك الكثير من الأمور الدنيوية ، ناهيك عن الأمور العلوية و الغيبية و عدم قدرته على التجاوب مع العقل الرباني ، فليست لديه القدرة الإطلاقية كما هي حال العقل الإلهي ، فهو يقف عاجزاً أمام تفسير و فهم أمور تعلو على قدراته و استطاعته ، فالعقل الرباني يحيط بكل شئ ، بينما العقل الإنساني يخضع لمنطق له خطوات و علل و أسباب و مقدمات تؤدي إلى معلول و نتائج تترتب على المقدمات ، و هو ما لا يشير إلى قصور هذا العقل ، إنما يشير إلى أن العقل البشري له طرائق تجعله مختلفاً عن العقل الرباني ، و هذا الإختلاف لا يعني نفي أحدهما للآخر
و قد أدرك المعتزلة هذا المعنى في الفارق بين العقلين مبكراً ، عندما قدموا حكم العقل البشري إذا تعارض مع ما جاءنا من العقل الرباني و حياً ، ليس مخالفة للسماء و أحكامها ، إنما إدراكاً منهم أن لكل منهما طرائقه المختلفة عن الآخر ، لذلك رجحوا حكم العقل البشري إذا تعارض مع النقل و فضلوه عليه ، إدراكاً منهم أن للنقل / الوحي / العقل الرباني ، منهجاً و نظاماً يختلف عن العقل البشري ، و إنه ليس بإمكان البشر فهم العقل الإلهي و العمل بطرائقه لأنه لو حدث لأصبحنا أرباباً و هو المستحيل عينه .
و ربما امتاز المعتزلة لهذا السبب عن أقرانهم من مجتهدي المسلمين ، لأن الآخرين و حتى اليوم يخلطون بين اللونين من العقل و الفهم ، و هو ما يؤدي إلى نتائج مضللة ، فيفتون بالعلاج ببول الإبل و الحجامة زمن طب الجينات و الخلايا الجذعية ، لأنهم يريدون التفكير بعقل السماء في شأن بشري بحت لا علاقة له بالعقل الرباني ، فهذا الشأن البشري يقوم على بحث و مختبرات و معامل و تجارب و تحليل و تركيب و استنتاج ، و هو كله ما لا يحتاج إليه العقل الرباني الكلي القدرات و الغني عن التجربة و الرفيع عن الخطأ و الصواب و المحاولة بينهما ، لذلك فإن من يخلطون بين العقلين الإلهي و الإنساني يضرون أشد الضرر بالدين و بالمجتمع ، و يظلوا حائرين في مساحة أسئلة تتردد منذ فجر الإسلام و حتى اليوم دون حلول يتفقون عليها ، لأنها أسئلة بدون إجابات ، لأنهم يدخلون بالعقل البشري منطقة الإلهى فيسألون كيف تلد الصخرة ناقة ؟ و كيف هو عرش الإله ؟ و هل له عين كي يكون بصيراً ؟ و كيف هي يده التي فوق أيدينا ؟ و هو كله ما لا يمكن الوصول فيه إلي إجابة حاسمة نطمئن لصدقها و سلامتها ، لذلك لن نصل إلى إجابة إذا تساءلنا لماذا يأمرنا الله بالهرولة في الحج ؟ و لماذا ندور حول البيت سبعاً لا تسعاً أو عشراً ؟ هنا الموقف الصواب هو الطاعة و التنفيذ و ليس البحث و الفحص ، و على المؤمن أن ينفذ طائعاً لأنها أوامر عقل غير خاضع لتعليلاتنا و استنتاجاتنا و لا للحتمية العلمية أو التاريخية ، لأن هذه قواعد عقل و مجتمع بشري لا إلهي .
و بينما العقل الرباني لا يخطئ لكماله ، فإن العقل البشري يجرب و يتعلم من الخطأ و الصواب ، فإذا ما خلط قوانينه في التجريب و التعلم و الفهم بالأوامر الإلهية ، يصاب بالارتباك لأن مشيئة الرب و أسلوب إدارته للكون هي مسألة لا يمكننا إدراكها .
و الدارس للقرآن الكريم و الحديث الشريف سيجد ما يشير بوضوح إلى اختلاف العقلين فيما نسميه معجزات ، و هي التسمية التي تعني عجز العقل عن فهمها ، و هو لم يعجز عن فهمها لعيب فيه أو قصور يشوبه ، إنما لأنها منتج عقل إلهي لا ينشغل بقواعد التفكير البشري و سلامتها من عدمه . لذلك تبوء كل محاولات تفسير المعجزات بالفشل ، للعجز عن استيعاب العقل البشري لها ، و الإصرار على تفسير الإلهي بالعقل البشري ، هو كمن يريد أن يُدخل العقل الإلهي اللامتناهي و طرائقه داخل العقل الإنساني و استيعابه و إخضاعه لقواعده ، و هو الأمر الغير ممكن بالمطلق . و ربما أدى مثل تلك المحاولات إلى إلحاد البعض ، فالملحد الذي يؤمن بعقله إيماناً قوياً يقوم بقياس منتج العقل الإلهي على قوانين عقله البشري فينتهي إلى الإلحاد .
و للإيضاح فكلنا لا ننكر وجود الهواء و لا ننكر أن المسطرة أداة قياس صالحة ، لكنا لا يمكن أن نقيس الهواء بالمسطرة ، لأن الله خلق الإنسان و أهبطه إلى الأرض لعمرانها و لعبادته ، و ليس لقياس عقل الإله و البحث فيه بمسطرة العقل البشري ، لذلك فإن الموقف السليم هنا هو العزل بين عالم الربوبية و عالم البشرية ، لأنه في حال خلطهما سنخرج بلا نتيجة او بضرر محقق على الدين أو على المجتمع . و قس على هذا كل اسئلتنا الحائرة التي قسمت مفكرينا فرقاً ، معتزلة و مرجئة و معطلة و سنة و أشاعرة و شيعة و غيرهم ، نتيجة لأسئلة تريد إخضاع العقل الإلهي لقوانين العقل الإنساني ، مثل السؤال في الجبر و الاختيار : هل الإنسان مخير أم مُسير ؟
فهو أولاً يخلط بين فعل الرب ( التسيير ) و فعل العبد ( حرية الاختيارالتي تترتب عليها مسؤلية الحساب ) ، فالخطأ يكمن في السؤال ، لذلك لا تجد إجابة واحدة تتفق حولها هذه الفرق ، فالرب عنده جنة عمل فيها أنهار اللبن و العسل و الخمر و أودعها الحور العين للمتقين ، و نحن بعقلنا صنعنا السد العالي و أقمنا مدينة اكتوبر و العاشر و الوادي الجديد ، و كلٌ له مجاله لا يتداخلان ، فلا الجنة مثل مدينة اكتوبر ، و لا نحن روينا للرب جنته ، و لا هو أشرف على تخطيط مدننا الأرضية . فقد أُهبط الإنسان مُجبراً للأرض بأمر إلهي ليعمرها و يخلفه فيها بعقله البشري ، أما الله فهو في ملكوته يعمل ما يشاء وقتما شاء كيفما شاء ، و ترك لنا أرضنا نفعل فيها بإرادتنا حتى يمكن حسابنا يوم الحساب ، ليرى ربنا هل أفلحنا في مهمتنا في الإعمار أم فشلنا . و إضافة لمهمة الإعمار فقد قرر تعالى أنه ما خلق الإنس و الجن إلا ليعبدوه ، و هذه العبادة ليست وفق عقلي و مقاييسه و أحكامه ، و ليس لي أن أسأل لماذا صلاة الفجر ركعتين و ليس خمسة ؟ و لماذا نصوم رمضان و لا نصوم أبريل و لماذا نرجم بسبع حصيات و ليس بعشرين ؟ فالجانب الإلهي طاعة فقط ، أما عقلنا فهو للفعل الأرضي ، للإعمار و إقامة الحضارات ، لذلك فما نفعله على الأرض بعقلنا أمر يختلف عن العبادات التي قررها الرب بعقله ، لا يختلطان ، لا يلتقيان ، بل يختلفان بالكلية . و من ثم لا يصح تدخلنا في العقل الإلهي ، كما لا يصح تدخل العقل الإلهي في هندسة الطب أو إقامة الهرم أو هندسة الجنيات ، فهذا متروك لنا و لن نحاسب عليه يوم البعث و الدنيونة و لن يدخل في ميزان حسناتنا أو سيئاتنا .
فإذا كانت قصيدة الشعر تعبر عن فكر مؤلفها و أحاسيسه و تدل عليه ، فإن القرآن الكريم يعبر عن الإله و فكر الإله ، و ليس عن رأي الشيخ القرضاوي و لا ابن تيمية و لا أي من فقهائنا قدامي أو محدثين ، لأنهم يفسرون أهداف الله و مقاصده قياساً على مقاصدنا الإنسانية و عقلنا البشري . فالفكر الرباني لا يلتزم بقواعد لأنه مطلق المشيئة و القدرة اللامحدودة ، لذلك فإن أساليب الفكر الإلهي لا ترتبط بالتعليل و التفسير و التبرير و الاستدلال و الاستنتاج ، بل هو يكسر كل ما نعلمه من قوانين التفكير المنطقي السليم بالمعجزات ، و لا يخضع لقوانين المنطق البشري ، حتى أننا لا نستطيع أن نقول أن العقل الإلهي له منطقه الخاص لأنه الكامل الذي لا يخضع لمنطق ، فهو فعال لما يريد دون قواعد و دون تبرير ، و غير مجبر و لا ملزم أن يفكر مثلنا أو أن يُحدث أمراً يُراعي فيه مناهجنا ، و أيضاً لا يلزمنا من هذا العقل الإلهي سوى أوامره و نواهيه و الطاعة له و الإيمان به ، هنا السماء تأمر بالتنفيذ و ليس بفهم أسرار التعبد ، لأن عقل الإنسان لن يفهم تقديرات الرب . أما أساليبه فلن نستطيع بها إخضاع البيئة و توظيفها ، و لن يمكننا تحويل العصا إلى حية و لا تفجير الينابيع بالعصا ، و لا إكثار الخير بجعل الصخور تلد نوقاً مثل ناقة صالح ، لذلك يكون من الغباء تصور إمكان تتبعنا أسلوب الرب في التفكير و التدبير ، لأن الله يقول للشئ كن فيكون ، و هو غير أسلوبنا الذي يسير وفق المحاولة و الخطأ للوصول إلى الصواب و وفق قوانين منطقية و منهجية ، و بها نستطيع إخضاع البيئة و توظيفها ، و ليس بالأسلوب الإلهي و الفكر الرباني .
لذلك فإن دعوة مشايخ زماننا لتقزيم العقل البشري و تعجيزه عن الفهم مقارناً بالعقل الإلهي ، هو خطأ منهجي و منطقي جسيم ، بينما الصواب هو الإقرار أن هناك عقلين ، أحدهما أعرفه و أفهمه هو عقلي البشري و أجهل العقل الآخر الإلهي ، و ليس أحدهما خاطئ و الآخر صحيح ، فكلاهما صواب في ميدانه .
البعض يرى أنه بالإمكان لتواصل مع الفكر الإلهي بواسطة الأدعية و القنوت له ليفعل معنا على الأرض فعل التعمير و الحضارة و لينصرنا ، لكن الإشكال هنا أن الدعاء ليس ملزماً للرب و لا هو فرض عليه يجب أن يلبيه و ينفذ المطلوب من الدعاء رضوخاً لقواعد ، لأن إرادة الرب لا تخضع لأي إرادة أخرى حتى لو كانت دعاءاً و مذلة أو استرحام ، فالمطلق لا يمكن التنبؤ بأفعاله المقبلة و إلا ما كان إلهاً . بينما الإنسان قادر على استكشاف القوانين الكونية و البيئية و امتلاكها و السيطرة عليها بعقله البشري وحده ، و تفعيلها فيما يعود عليه و على المجتمع بالنفع . فيتحكم في البيئة و يسيطر عليها و يمكنه التنبؤ بالأحداث المستقبلية و الاستدلال عليها و على إمكان حدوثها ، على عكس الوضع مع العقل الإلهي الغير خاضع للاستدلال و الاستنتاج ، فنحن حتى اليوم لا نعرف لماذا رفض الرب قربان قابيل و قبل قربان هابيل ، و لا نعرف سر نجاسة الكلب و الخنزير ، و لا نعرف كيف عبر نبينا ( ص ) في معراجه كل المجرات و الكواكب بسرعة أضعاف أضعاف سرعة الضوء دون تجهيزات لضبط الضغط و الحرارة و الأوكسجين و آلات الدفع و غيره ، أو دون أن يتحول العارج بهذه السرعة إلى طاقة ، فهذه قوانيننا و ما وصلت إليه عقولنا ، و هو ما لا يتطابق مع تلك الرحلة الإعجازية التي تمت وفق العقل الإلهي و ليس الإنساني ، و لمزيد من تأكيد الفصل و التفريق بين العقلين أضرب مزيداً من الأمثلة الواضحة البيان ، فقد تخير الرب مالك هذا الكون بمليارات أجرامه و مجراته ، كوكب الأرض مقراً لبيته ، و اختار من كل القارات قارة آسيا ، و من بين بيئات آسيا المتنوعة و ما تنعم به من أنهار وجنات و خيرات و اعتدال مناخ ، اختار واد غير ذي زرع بالحجاز المقفر مُفضلاً إياه على بقية كونه ، فضلّه على سويسرا و الريفيرا الإيطالية و جبال لبنان و وادي النيل و السين و الفرات ، إختار أفقر و أجدب بقاع العالم محلاً لإقامة بيته . و هو ما يخالف منطقنا نحن البشر ، فنحن نفضل الجمال و الوفرة و الرفاهية و النعيم و اللطف و الرقة ، لكن كل هذا لا علاقة له بالقداسة ، فقد اختار الرب ذلك الوادي الملتهب الحرارة قارى المناخ وهو أسوأ مناخات الأرض والغير ذي زرع و منحه القداسة بإقامة بيته فيه ، رغم أنه هو خالق كل البقاع ، و مع أنه هو الذي يهب القداسة و يخلقها ، و كان يمكنه منح القداسة لأمستردام مثلاً أو لباريس حيث الرقة و اللطافة و النعيم و الجمال ، لكن إرادته أبت ذلك ، و أبت أن تربط النعيم الدنيوي بالقداسة الربانية . هذا الاختيار هو دعوة لنبذ التعليل للأفعال الإلهية لأنه لا يسير وفق شروطنا ، و الاستدلال و الخيار بين الممكنات المتاحة ، فقد يكون الأسوأ في عقل البشر هو الأفضل في العقل الإلهي الذي اختار أسوأ مكان و أجهل شعب في أرضه ليقيم فيه أشرف و أقدس بيت في الدنيا و يجعل من شعبه خير أمة أخرجت للناس ، بل اختار له الشكل المكعب المتواضع فهو أبسط شكل هندسى ، بجوار ما تزخر به السعودية اليوم من معمار هندسي عظيم في جدة أو الرياض أو غيرها . و لا شك أن النبي إبراهيم عليه السلام كان مُسيراً في هذا الخيار لأنه لو اختار بعقله البشري لاختار وطنه الأصلي حيث جنات الفرات و دجله ، لأن العقل البشري له طرقه في المفاضلة و التمييز و الاختيار ، لذلك كان الأمر لإبراهيم بإقامة القواعد من البيت في الحجاز ، و هو ما يعني أن للسماء رؤي و فكر يختلف بالكلية عن رؤية الإنسان و فكره .
و هو الشأن الذي سنلحظه في كل الأديان السماوية ، فمنتجها الفكري لا يلتزم بقواعد العقل البشري و قوانينه ، و لا تقبل التحاور مع هذا العقل . و عليه فإن العالم محكوم بعقلين ، عقل رباني لا يعرف التعليل و الاختيار و البحث و الاستدلال ، و عقل بشري يبحث عن المصلحة و الأفخم و الأجمل و الأمتع و الأكثر إقناعاً و منطقاً . و عليه فالإنسان غير ملزم بعمل مثل الخالق لاختلاف المنهجين و لأن للرب مقاييسه الخاصة ، فقد نظر إلى أقفر و أفقر البيئات وأسوأها مناخا وبشرا ( مكة ) ليضع فيها بيته على الأرض ، بينما لو كان لنا الخيار لأخترنا هاواي أو فيّنا أو فارنا ، و بذات المقياس لو قال المشايخ عن شخص أنه كافر ، لربما اختاره الرب كأفضل عباده الصالحين . لذلك عندما يتطوع شيخاّ ليقول أن الله سيقبل الشيخ فلان لأنه رجل دين و سيرفض الفنان أو الكاتب أو المبدع فلان بسبب كتابته النقدية مثلاً ، فهو يرتكب أكثر من وزر و أكبر من خطأ ، أولاً أنه يسلب الله حقه فهو الوحيد الذي يستطيع الحكم على الضمائر بالكفر و ما يتبعه من دخول جهنم ، أو بالإيمان و ما يتبعه من دخول الجنة ، الشيخ هنا يلزم الله بقرار عقله البشري الذي يختلف بالكلية عن عقل السماء ، فالرب لو عمل مثل الشيخ و برر و علل لا يصبح إلهاً و تسقط ألوهيته ، لذلك فإن المفكرين من مشايخ زماننا يفرضون قرارهم على العقل الإلهي و يحرمون و يحللون ليتشابه عقل الشيخ و عقل الإله ليصبحوا آلهة مثله .
و يتحول من يعترض على المشايخ إلى كافر ، بينما التكفير هو افتئات على أهم صفات الله و إرادته ، لأن قبول إيمان إنسان من عدمه يعود لمشيئة واحدة فقط هي المشيئة الإلهية التي لا يعلمها أياً من البشر ، لا شيخ و لا كاهن و لا عارف بالله .
هذا ناهيك عن مخالفة مشايخ التكفير بل و نقضهم الآية الصريحة بقرار رباني يؤكد أن الله ما خلق الإنس و الجن إلا ليعبدون . مثلها بالضبط مثل " كل في فلك يسبحون " ، فالبشر جميعاً و الجن و الأفلاك و المجرات كلها تعرف الله و تسبح مشيئة الخالق ، لأنهم جميعاً لو لم يعبدوا و يسبحوا لحدث خلل في الأفلاك و انهار نظام الكون ، و ما نراه أحياناً صادماً لمشاعرنا و تعصبنا و ننعته بالكفر إنما هو لون من العصيان ، فكل البشرية تعرف أن للكون خالق منذ الإنسان البدائي ، و من يتهم غيره بالكفر فإنه كمن يكذب الآيات القرآنية التقريرية بالقرآن ، التي تؤكد أن الله خلق الخلق ليعبدوه . فالله قد أمر عباده برحمة عباده و أسمى نفسه الرحمن ، بقرار جعل البوذي يرحم و المسيحي يرحم و اليهودي يرحم و المسلم يرحم ، أمر بالتعاطف و كل متدين يتعاطف ، هندوسياً كان أم سيخياً أم مجوسياً ، و نص الآيات يشهد للبشرية جميعاً أنها تعرف الله و أنها تعبده ، فمن كفّر غيره فهو منكر لمعلوم من الدين بالضرورة ، فالله يقول أنه خلق الخلق كي يعبدوه ، و مشايخنا يقولون عن البعض أنهم كفار لا يعبدونه ، بينما وجود كافر واحد بمعنى المنكر للألوهية و لوجود الذات العلية ، يسقط مشيئة الله القاضية بمعرفة كل خلقه به حتى جمادات الأفلاك ، و إيمان الكل به و عبادته و إن كان كل ٌ على طريقته .
و عليه فإن النظر لمن يختلف عنا في طريقة عبادته أو معرفته بالرب الخالق القدير بحسبانه كافراً ، هو خطأ في تفسير مُراد الرب و مقاصد كماله ، و عندما نتحاور في شأن ديني تختلف حوله قد يجوز القول أن أحد طرفي الخلاف كافر برأي الطرف الآخر و ليس كافراً بالله ، لأن الخلاف في الواقع هو بين طرفين بشريين و ليس أحدهما هو الله ، هو كفر رأي برأي ، كفر بشر ببشر و ليس برب البشر ، لأنه سيكون خلافاً حول تفسير كلام الرب حسب عقل منهما و حصيلته المعرفية ، لكنه لا يفسد بين أحد المختلفين و بين ربه ، لأن الاختلاف بشري و الحوار بينهما إنتاج عقلهم البشري و ليس الله ، فالخلاف في واقعه يقع على آراء بعضهم البشرية و ليس على الله ، و خلافات المذاهب الدينية كلها مستحدثات بشرية ، أما الإيمان برب خالق أحق بالعبادة و القدسية فلا خلاف حوله ، فنحن لا نختلف على أن الله قد قال هذه الآية أم لا ؟ إنما نختلف علي فهمها بعقولنا التي ليست كعقل رب الأرباب و ملك الملوك .
و كلا الرأيين المختلفين منتج عقل بشري مصنوع لإدارة شئون الدنيا و ليس لصنع أديان ، لذلك فالمكفرين يستخدمون الأداة في غير محلها ، فالفأس مصنوع لنفتح به الأرض و ليس لنفتح به باب البيت ، فإذا استخدمناها في غير وظيفتها انتهت بتكسير الأديان إلي مذاهب و فرق ، فهم كمن يستخدم الحقيبة الدبلوماسية لتهريب المخدرات .
و إذا كان محمد النبي ( ص ) بجلال قدره لم يفعل فعلهم و لم يكفر مسلماً ، و كان ينتظر دوماً قول الله فلا يقول من عندياته لأنه بشر و عقله عقل بشر لا يصنع ديناً . فمن العجيب أن ترى اجتراء مشايخ زماننا الذين يجيبون على إي سؤال في أي شأن ، نسألهم عن زرع الأعضاء فوراً يقولولون حرام ، يقول الشيخ ما لم يعرفه محمد ( ص ) ليقوله ، و يعمل كل منهم لنفسه ديناً جديداً يسميه مذهباً أو فتوى كما لو كانوا آلهة ، بينما النبي محمد ( ص ) لم يصنع لا ديناً و لا مذهباً و لم يكن إلا عبداً بشراً مُبلغاً لا مبتدعاً . إن المهمة المكلف بها العقل البشري من قبل الله هي الإعمار بتآزر البشرية و ليس بتكفيرها ، فعقلي مخلوق كي أعمل به في الحقل و المصنع و ليس في الدين ، لذلك اتسم الإسلام بخصوصية و فرادة هي أنه لا يعرف رجال دين و لا يعترف بكهنوت يبحث في شئون تخص الله و هم بشر . فوظيفة العقل البشري هي التعمير و التعبد ، و في التعبد يمتنع الجهد العقلي بالمرة ، بدليل أن المبشرين بالجنة معظمهم كان من الأميين الذين لا يستطيعون بذل الجهد العقلي . فالدين هو أن نؤمن بة لا أن نحاوره ، الدين هو أن أؤمن و أصدق أنه خلق من السماوات سبعاً و من الأرض مثلهن ، و لا أسأل لماذا لم يجعلهن تسعاً أو عشراً ؟ و لا أدخله في العلم البشري الذي لا يقول بسماء أصلاً و يقول بطبقات جيولوجية للأرض لا سبع أراضي ، لذلك فإن خلط الإلهي بالبشري هو ضار بحياتنا و بديننا في آن .
يقول المصطفى ( ص ) أن المرء يولد على دين الفطرة ، فأبواه يهودانه أو يمجسانه ، و هو ما يعني أن الإنسان يولد مفطوراً على معرفة الخالق مطبوعاً في عقله و روحه ، ثم بعد ذلك يأتي دور النبوات التي تأخذ هذا إلى اليهودية و ذاك إلى المسيحية و آخر إلى المجوسية وغيرة إلى البهائية وغيرهم إلى البوذية . . إلخ . فالإيمان بالله فطرة و اتباع أحد الأنبياء هو اكتساب ، و المؤمن بالله يضيف إليه الإيمان بنبي واحد على الأقل ، و من هذا النبي يستقي طرق العبادة للإله الخالق و تعاليمها و شروطها التي تشكل له دينه ، ومن ثم فإن الأسرة و المجتمع هي من تقوم بإضافة النبوة للفطرة في طفولة الإنسان ، و من ثم يصبح السؤال حول الإيمان و الكفر في صيغته السليمة : هل من المعقول أن يتم تهويد أو تمجيس من هو كافر أصلاً بوجود الله الخالق ؟ الإجابة بالقطع أن الإيمان بالله فطري فلا يوجد إنسان كافر بالله حسب الحديث و الآيات الكريمة ، فكل إنسان يولد مؤمناً يقبل الرب داخل روحه ، ثم يقوم المجتمع بإكسابه قبول أحد أنبياء هذا الرب .
و لأن خالق الكون رب واحد وحيد أحد ، فإنه حسب الآيات " ما خلقت الإنس و الجن إلا ليعبدون " ، لن يخلق من ينكر وجوده و يكفر به . فمثل هذا الإنكار ليس فيه صالح للمخلوق ليقدم عليه ، و لن يضر بالخالق الموجود قبل ذلك المخلوق ، و عليه لا يمكن للمخلوق إنكار الخالق ، و لو أنكر فلن يزيح الخالق أو يحيله من موجود إلى لا موجود ، لأن الثمرة لا يمكنها إنكار الشجرة ، و حتى إن إنكرتها فهذا لا يقضي على الشجرة ، و في الحالين فإن الإنكار غير مجد لكليهما ، فالكفر شئ بلا قيمة و لا معنى لأنه غير ممكن عقلاً أو ديناً ، و وجود الكفر من عدمه سيان ، فهو لا يعطل مسيرة الكون و لا يزيد من فعاليتها أو ينقصها ، لأن الله لم يخلق من ينكره .
ناهيك أنه قبل خلق البشر لم يكن هناك شئ اسمه الكفر ، و هو ليس من الأسماء التي علمها الله لآدم لأنه لن يقول لآدم أنا غير موجود ، و لو فرضنا جدلاً أن الله علم آدم اسم الكفر فهو ما يعني أنه لا وجود لا قبل آدم و لا بعد آدم و لا لآدم ذاته ، فيكون هو العدم و اللاشئ و اللاوجود ، و هو غير الحاصل في الوجود . و هو ما يعني أن الكفر معناه فناء كل الأشياء و الرب و الكينونة جميعاً ، لذلك تكون النتيجة المحتمة أنه لا شئ اسمه الكفر بالله ، إلا إذا كان خللاً في تركيب المخلوق . أما لفظة كافر الواردة بالقرآن فلا تعني الكفر بالله إنما تعني المعصية بأوامر و نواه الإسلام و ليس الله ، و لا يعني غياب الإيمان بالله الخالق القدير داخل عقل المخلوق ، و لا يعني غياب الرب عن الوجود .
هنا لابد أن يواجهنا من يقول أن للإيمان شرطين ، الأول أن تؤمن بالله خالق الكون ، و الثاني أن تؤمن بنبي بعينه باعتباره المتحدث الرسمي باسم الرب ، و أن هذا المتحدث باسمه هو سيد للآخرين يأمرهم و يتسلط عليهم و يقودهم حيث يرى ، و هكذا فإن هذا الشرط الثاني يعني أن هناك شريكاً بشرياً في الإيمان بالله ما لم تقر به يطلقون عليك لقب ( كافر ) ، حتى أن بعض هؤلاء الشركاء تعلو مكانتهم مكانة الرب الخالق نفسه ، فبعض هذه الأديان تتسامح في سب الله لكنها لا تتسامح في سب هذا الشريك ، و بعض الأديان أعطت الشريك البشري صفات تعلو على صفات الخالق و من هنا ينشأ ما يسمونه الكفر بالخالق ، و تكون المشكلة أفدح عندما يرث البعض عن هذا الشريك سيادته و قيادته للمجتمع ، مشكلين طبقة كهنوتية لا علاقة لها بكفر و لا إيمان بل ببشر لهم أطماعهم و نزواتهم الدنيوية.
و المطالع لآيات القرآن الكريم سيجده يقر في آيات كثر بإيمان وثنيي مكة و الجزيرة بالله الخالق مثلهم مثل اليهود و المسيحيين " و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض سيقولون الله قل فأني تؤفكون " ، و كفرهم يعني أنهم جعلوا بينهم و بين الله وساطة من الناس الصالحين التقاة يتشفعون للناس عند الله لأنهم الأطهر ، و بمرور الوقت اقاموا لهذا الشفيع مقاماً و تمثالاً و تقدموا له بالدعوات ليرفعها لرب العالمين ، لذلك أسماهم الله بالمشركين لأنهم أشركوا مع الله من هم دونه من خليقته ، و أسماهم كفاراً لا بمعني الكفر بالله ، لكن بمعنى الإيمان بكهنوت و قداسة لبعض البشر إضافة لإيمانهم بالله .
حتى الإنسان البدائي في وحشيته الأولى كان قلبه يستشعر وجود هذا الخالق و يعبر عن هذه المعرفة بالحب له و الشكر و الاعتراف بقدرته فيطلب منه ما يريد بالدعاء و التراتيل ، و أطلق كل مجتمع بشري على الخالق اسماً ، فتعددت الأسماء و الرب واحد ، و وصفه بقدر ما سمح له عقله و فكره و خياله ، لذلك لم تعرف البشرية شعباً لم يتعبد و لم يُصل و لم يحج لمكان مقدس و لم يصم و لم يعرف الخير و يميزه عن الشر ، و أن الخير يرضي الإله و أن الشر يبغضه . . بل أزيد هنا في القول ما لن يعجب البعض فأقول : إنه حتى إبليس لم يكن كافراً بالمعنى الرائج الآن في ثقافة المسلمين عن معنى الكفر ، إنما كان من الكافرين بمعنى العصيان لا بمعنى عدم الاعتراف أو الإنكار ، فهو يعرف ربه ، و حاوره و تحدث معه ، فهو لا ينكره ، إنما هو قد عصاه ، و مثله آدم أيضاً كان يعرف ربه و يحاوره و يتحدث معه ثم عصاه بدوره ، الأول رفض السجود لآدم و الثاني أكل الثمرة المحرمة و كليهما يعرف الله و لا يكفر به ، و كلاهما عصى أوامر الله على التساوي ، و هنا يمكن قراءة الآية " كان من الكافرين " ليس بصيغة الجمع ، لأنه لم يكن هناك كافرين آخرين حينذاك ، و ربما هي في صيغتها الأولى قبل التشكيل و التنقيط على يد أبي الأسود الدوؤلي ، كانت بصيغة المثنى و هي الأكثر قبولاً و اتساقاً مع الموقف ، لأنه لم يكن في الوجود من عصى أمر ربه غير اثنين بلا ثالث هما إبليس و آدم ، و ما عدا ذلك فيما أخبرنا القرآن كان كل الخلق ملائكة و أجراماً و أفلاكاً تعبد الله و تطيعه و تسبحه و تسجد له . خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن إبليس بعد عصيانه طلب من الله مد الأجل و أن يجعله من المنظرين .
و لا يعقل أن يطلب ذلك من ينكر وجود الله كفراً كما يشيعونها اليوم . و هنا ستنشأ مشكلة لأن إبليس عصى و عوقب بالتكفير، و آدم عصى و لم يعاقب ذات العقوبة ، و هو ما يتنافى مع مفهومنا عن العدالة ، و هو ما يحيلنا مرة أخرى لتأكيد أن الله لا يعمل وفق منطقنا و فهمنا إنما يعمل بمشيئته المطلقة التي يسلم بها المؤمن ، لعدم إمكان تطابق العقل البشري مع العقل الإلهي .
حتى فرعون نفسه كان يؤمن بضرورة وجود إله ، و لأنه لم ير أمامه في الدنيا من هو في سلطانه و قوته و قدرته و غناه ، فقد رأي نفسه هذا الإله ، لذلك دخل المباريات مع النبي موسى ( ص ) لإثبات قدرات إله كل منهما .
و إعمالاً لما سلف فإن العقل البشري لم يخلقه الرب لتصميم الأديان و الملل و النحل و المذاهب و الإفتاء ، و الدعوة إليه بالقهر و عدم الحكمة و الموعظة الحسنة ، و قد أثبت لنا التاريخ أن تدخل العقل البشري في منتج العقل الإلهي ، أدي لإنقسام الأديان و ظهور الفرق و المذاهب المتناحرة و المتحاربة و المتقاتلة ، حتى قام الصراع بين أتباع الدين الواحد ، و تكفير كل مذهب لغيره و كل دين لغيره ، رغم إقرارهم جميعاً بوجود رب خالق واحد ، و هو ما يعني أن كل هذا الصراع هو شأن بشري يتعلق بالبشر و أهوائهم و أطماعهم و مكاسبهم و تجارتهم بدين الله . و منذ تم إقحام الدين في السياسة عانت البشرية من ويلات الحروب الدينية ، و في سبيل مكاسب الكاهن الواحد كان الملايين يموتون قتلى معتقدين أنهم يموتون في سبيل الله ، بينما كانوا يموتون في سبيل المزيد من ضخ النعم الدنيوية لخزانة الكاهن أو رجل الدين .
و المؤمن الصادق هو من يعلم أن العقل البشري غير مصمم لإنتاج اديان ، و عندما يفعل ذلك ينكشف و يتعرى و يقدم بدعاً لا ديناً ، و يعلم ان الدين شأن إلهي لا دخل للبشر فيه و لا إرادة لهم في صنعه . و يعلم أن عقلنا البشري هو للإعمار و ليس لإقامة الأديان و الإرتزاق منها . و لأن العقل البشري غير مؤهل لذلك لزم إبعاده عن الدين و إبعاد الدين عنه ، بالتخلي التام عن وسائط الكهنة و المشتغلين بالدين من البشر .
و هكذا فإن وحدة الرب و وحدة الإنسانية تحتم وحدة الدين الذي هو علاقة خالصة بين الخالق و المخلوق الذين هما عنصرا الإيمان ، و من هنا فإن ما جاء في صحف إبراهيم هو ما جاء في ألواح موسى هو ما جاء في بقية التوراة ، و في المزامير ، وهو ما جاء فى الأناجيل ورسائل التلاميذ ،و هو ما جاء في القرآن ، و الاختلاف بينهم اختلاف سببه زمان كل دين و لغته و مستواه المعرفي و معارف ناس ذلك الزمان و عاداتهم و تقاليدهم و ظروف بيئتهم التي يجب أن يتناسب معها ليكون مفهوماً ، و ما عدا ذلك فكلها تتفق على معان أساسية ، توحد أكثر مما تفرق ، لكنها مرة أخرى مشيئة العقل الإلهي الذي أراد هذا التعدد ليجعلنا شعوباً و قبائل و أمماً لنتعارف و ليس لنتحارب و يقتل بعضنا بعضاً ، بتهمة لم تكن في القاموس المفهومي للدين ، تهمة الكفر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق