جهاز الأمن الذي يحكم سوريا
نسخة باهتة من الأجهزة السوفيتية العتيقة
نجاح داخلي يخنق الأنفاس وفشل خارجي يثير الإشمئزاز
الأمن يحكم كل شئ : الجامعة والمصنع والشركة وأيضا الفن
عندما يريد الأمن في أي دولة من دول العالم استدعاء شخص ما للحديث عن أمر أو إجراء استجواب فإن الطريقة معروفة، خطاب استدعاء أو زيارة من أحد أفراد قسم شرطة أو ما شابه لكن في سوريا الأمر يختلف تماما
في سوريا الأمن لا يحتاج لكل ذلك وهو من قبيل التوفير للوقت والوقود لا يرسل مندوبين ولا يطلب من أحد الأقسام أن يبلغ فلانا أنه مدعو لزيارة الأمن لكنه بكل بساطة يكتفي بمكالمة تليفونية عصبية آمرة تخبر الشخص المراد أنه يجب أن يتواجد في مبنى الأمن المحدد في تمام الساعة كذا ...انتهى الأمر
لكن هل يمكن أن يكون الأمر مجرد دعابة من صديق على طريقة الكاميرا الخفية..بالطبع لا فكل ما يخص الأمن في سوريا لا يبعث على الضحك ولا يقترب منه أحد فلو جاءك هذا الإتصال فتأكد أن الأمن هو المتصل فلا أحد في كل أرجاء سوريا يجرؤ على انتحال صفة الأمن ولو عبر أسلاك الهاتف
وفي مجتمع محكوم بقوة بوليسية مرعبة لا تعترف لا بالقانون ولا بأي حقوق لأي كان سوى حق التحري والإستجواب تتحول ساعات الإنتظار حتى الموعد المحدد إلى موت بطئ يزيدها أن كودار الأمن السوري تتعمد بشئ من السادية أن يفصل دائما بين مكالمة الإستدعاء وبين الموعد المحدد يوم كامل يقضيه الضحية في تذكر كل ما فعله في حياته مفتشا عن شئ قد يكون دافعا لقوى الأمن لإستدعائه
لكن المؤكد أن هذه الطريقة تعد رحيمة بالنسبة إلى الحالات التى يقرر فيها الأمن أن يقوم هو بالزيارة الأولي للضحية عندما تتوقف سيارات الأمن بحدة أمام احد المنازل وينزل منها رجال الأمن بسرعة مستمتعين بنظرات التساؤل التى تظهر على وجوه السكان المحيطين ونظرات الرعب التى ترتسم على وجه الضحية وهو يتلقى خبر استدعائه دون أن يحصل على إجابة للسؤال المعهود والتقليدي: أنا عملت حاجة؟
تبدأ رحلة الذهاب الذي قد يكون دون عودة إلى مقر الأمن بعد مراسم توديع الأهل والمقربين وتنتهى كل علاقة للضحية على بوابة الإدارة التى تم استدعائه إليها والتى يسلم بطاقة هويته على بابها ثم تبدأ رحلة الإنتظار في قاعة كل من فيها على شاكلة الضحية إلى أن يحين دوره بعد وقت طويل يكون خلاله قد جرد من هاتفه المحمول وقضي على ما تبقى من أعصابه عبر ساعات الإنتظار الثقيلة
في النهاية وعندما يحين وقت المقابلة ويستقبله من أرسل إليه طلب الإستدعاء تبدأ رحلة أخري تبدأ في أحيان كثيرة بتجاهل الضحية التى دخلت إلى المكتب بينما يقوم ضابط الأمن بممارسة بعض طقوسه الخاصة مثل إستكمال تدخين سيجارة أو مطالعة بعض الأوراق أو حتى الصمت التام والتحديق في الضحية لمدة قد تطول حتى يتأكد من أنه قد وضع الضحية تحت سيطرته تماما
بعد ذلك تبدأ دوامة الأسئلة التى تبدأ بمعلومات مجانية يقدمها ضابط الأمن طواعية للضحية عن حدث ما أو شئ يرى أن الضحية يدرك أن لا أحدا غيره يعرفه مبالغة في إشعار الضحية بأنهم يعرفون كل شئ
أحيانا تكون البداية سخيفة خاصة لو كانت الضحية أنثى كأن يبدأ الحوار بذكر خصائص شخصية عن علاقة جنسية أو مشاكل أسرية لكن في النهاية الغرض واحد: نحن نعرف كل شئ
ربما يكون الأمر في النهاية محاولة من ضابط الأمن لتجنيد الضحية لحسابه في مكان عمله أو الحصول على معلومات عن أحد يلتقيه الضحية صدفة كما يمكن ببساطة أن يكون الأمر بالكامل لمجرد أن ضابط الأمن يحتاج خدمة شخصية من الضحية وهنا يجب أن يشكر الضحية الأقدار التى اختصرت الطريق عند ذلك لكن في أحيان أخرى تختلف الصورة تماما وعلى شكل مأساوي بحت
عندما يكون قد تسرب إلى ضابط الأمن مجرد شك في أن ضحيته على علاقة بأحد العناصر التى ليست على وفاق مع سياسة الدولة وهو مصطلح واسع يبدأ من مجرد الحديث عن الغلو أو حتى عن حالة الطرق وينتهى عن الحديث عن السياسية وهي الحديث الحرام في سوريا
هنا يتغير شكل المعاملة (الكريمة ) تماما وتحتد اللهجة بداية من الصوت العالي المميز لعناصر الأمن السوري ولا تتوقف عند الركلات وقد تستمر الضحية ف ضيافته لبعض الوقت إلى أن يجدوا أنه من المناسب الإفراج عنها دون أن يكلف المحقق نفسه عناء التأكيد على الضحية بعدم الحديث عن ما دار من عذابات خلال فترة الإحتجاز فضباط الأمن السوري يجدون أن الحديث عن العذابات والإهانات التى تتعرض لها الضحايا عندهم يكسبهم مزيدا من المهابة في عيون الشعب وهو ما يتمتعون به خاصة عندما يرون من يشاء حظه العاثر أن يمر من أمام أحد المقار الأمنية يسرع الخطى محاولا اختصار الوقت الذي يتطلبه المرور أمام هذه الإدارات التى تضع الكثير من الجنود والإستحكامات أمامها
من الأشياء التى تقودك مباشرة إلى مكاتب الأمن السوري أي حديث عن استعجال تحرير الجولان فالحديث عن الجولان ممنوع تماما في سوريا في ظل إدراك شعبي سوري بأن الجولان قد تكون سلمت وليس احتلت في فترة سابقة من تاريخ سوريا ولذلك فأي حديث عن الجولان يسبب حرجا للقيادة السياسية السورية وعليه فإن مجرد التطرق بالحديث عن الجولان يعتبر بوابتك الواسعة إلى الإستضافات الأمنية التى ما أن تبدأ حتى تتواصل
أيضا كل حديث عن العبارة الشهيرة لبشار الاسد(نحتفظ بالحق في الرد) وهي عبارة كثيرا ما يرددها عندما يقرر أحد جنرالات اسرائيل تأديب بعض الفلسطينيين في سوريا عن طريق صواريخ الطائرات أو القيام بخرق المجال الجوي السوري وهي ممارسات لا تنتهى إلى حرب ولا هي مرشحة لذلك لكن في النهاية تصدر العبارة الوحيدة التى يجيدها الأسد وعندها تصبح عملية انتقاد هذه العبارة أو حتى ما قامت به اسرائيل أحد المحظورات
أما الحديث عن العلاقات السورية الإيرانية فحدث ولا حرج فأي نقد لإيران داخل سوريا هو خط أحمر لا يجوز الإقتراب منه من قريب أو بعيد مثله مثل الحديث عن حزب الله وحسن نصر الله
ولكي تبتعد تماما عن زيارات الأمن فعليك في حالة قيام الأمن بزياراته لأحد أقاربك أن تنسي هذا القريب على الفور كأنه لم يولد حتى اذا قدر له الخروج وبطبيعة الحال فإن المغامرة بالتوجه الى أحد أقسام الشرطة للسؤال عن أحد المختفين عن طريق الأمن السوري يعنى أنك توجه لهم الدعوة لإستضافتك
وفي دولة اختفي فيها الألاف بعد استدعاءات أمنية يصبح الحديث عن أي شئ دون إذن شكلا من أشكال الإنتحار لذلك تصدر الصحف السورية على شكل نشرات حزبية لا تحمل جديدا سوى ما يمليه عليها المسؤولون عن الإعلام في الحزب فتبدأ كل الصحف السورية في مهاجمة دولة بعينها أو مدح دولة بعينها ثم يتوقف كل ذلك في لحظة وكأن عصا سحرية تحكم الأداء الصحفي للصحف السورية التى تصدر مكبلة دائما بنشر صور الثلاثي بشار وباسل والأسد الأب
بصورة أو بأخري يسيطر الأمن على كل شئ تقريبا في سوريا بداية من الترشح لأي وظيفة قيادية حتى لو كانت مجرد مدير لإحدي المتاجر مرورا بقيادات الجامعات السورية والشركات والمصانع
والأمن لا يعرف حدودا في سطوته ولا في عطائه فيمكن أن تقفز فتاة إلى أعلى سلم النجومية في الفن السوري دون جهد يذكر لأنها مؤمنة بمبادئ حزب البعث وتمارس الفن بإخلاص ورؤية بعثية بينما تتعثر أخرى أو تنتهى مسيرتها قبل أن تبدأ
وفي بلد تحكمه قوى الأمن لا حصانة لأحد حتى كوادر الأمن نفسها التى تجري مراجعات دورية لتوجهاتهم وعلاقاتهم الخاصة والعامة للتأكد من إخلاصهم ويطال الأمر أيضا منتسبي أجهزة الجيش والشرطة على طريقة الكل متهم إلى أن يثبت العكس
جهاز الأمن السوري هو شكل باهت بعض الشئ في التكوين للأجهزة السوفتييه العتيقة التى كانت ملزمة بأن تبدأ تقاريرها سواء تقارير معلومات أو تقارير استرتيجية بدباجات معقدة حول أن هذا التقرير يستند ويتوافق مع ما نادت به الثورة ومتوافق مع التوجه الأيديولوجي للدولة ثم يبدأ التقرير بعد ذلك في التصرف كأي تقرير يصدر في أي دولة أخري
وعندما يكون جهاز الأمن في دولة ما على هذه الشاكلة فهو يجتذب دائما أنواع من البشر يحاولون الإلتصاق به طمعا في حظوة أو حماية أو درءا لخوف متأصل في النفوس أو حتى لإنعدام الكفاءة لديهم في أعمالهم الأصلية فيعوضون ذلك بالكفاءة في كتابة التقارير
والأمن السوري لا يقوم فقط على أكتاف كوادره لكنه يستخدم أيضا كل منتسبي حزب البعث وقطاعات كبيرة من موظفي الدولة ويمارس عملية ابتزاز المعلومات من أصحاب المهن الحرة كالتجار لأنه في النهاية يمكن أن ينهي تجارتهم بقرار من إحدى الإدارات كما أنه قادر على إتاحة فرص الكسب لديهم
وبقدر ما تحقق سوريا نجاحا متزايدا عبر منظومة الأمن الداخلي بقدر ما تعاني من تقلص هذا النجاح في عملياتها الخارجية التى تأتي مكشوفة كأنها مختومة بختم الدولة السورية لكنها في أحيان كثيرة لا تهتم بتلك الوصمة تماما كما تفعل في علاقتها بحزب الله وفي دورها مع حماس وتحركاتها المكشوفة دائما داخل لبنان
أما بالنسبة لقدرة سوريا على التحرك أبعد من ذلك فحدث ولا حرج ، فبعد سقوط العراق ونظامه البعثى الذي كان يشكل هاجسا مخيفا لقيادات سوريا أتى التحذير واضحا من أمريكا بأنهم قد يضطرون اثناء مطاردة ساخنة لعناصر معادية لهم في العراق ، قد يضطرون لخرق الحدود السورية ...التحذير كان مفهوما ورد الفعل كان سريعا فكان القرار السوري بعدم الإشتباك مع القوات الأمريكية التى تطارد أحدا اذا ما خرقت الحدود
أيضا كان الوضع السوري محرجا جدا عندما توترت علاقاتها بتركيا وأصبح الوضع ينذر بحرب تركية سورية بينما الجيش السوري غير معد سوى للاستخدام الداخلي كرديف لقوات الأمن السورية إلى أن قامت مصر بنزع الفتيل في اللحظة الأخيرة
وفيما يخص حالة الصراع بين اسرائيل وسوريا على الصعيد الأمنى فحدث ولا حرج فالأمر يشبه التوافق أكثر ما يشبه الصراع ولا عمليات تجري على الإطلاق من هذا الجانب أو ذاك في ظل قناعة اسرائيلية حقيقية بأن الجبهة السورية هادئة تماما ولا تحتاج في أسوء الأوضاع سوي لخرق المجال الجوي حتى يعود الجميع إلى رشده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق