مخرج الفيلم
في سياق التجارب الجديدة لتيار "السينما المستقلة" في مصر التي تقودها مجموعة من شباب السينمائيين مسلحين بكاميرا "الديجيتال"، وبسيناريوهات مكتوبة بشكل مباشر للسينما من تأليفهم، يخرج فيلم "هليوبوليس"لاحمد بعد الله من معطف فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط
والفيلم هو الأول لمخرجه الشاب، وهو مونتير فيلم "عين شمس"، ومنتج الفيلم شريف مندور هو نفسه منتج "عين شمس"، والطريقة التي صور بها هي نفسها، ثم جرى تحويله أيضا إلى نسخة من مقاس 35 مم، والموضوع ينتقل من حي (عين شمس) الشعبي، إلى حي مصر الجديدة الذي يعد أحد الأحياء الراقية أو هكذا كان الحال قبل زحف قيم التدهور. ووهو يعرف في اللغة الانجليزية (أو ربما في الهيروغليفية) باسم هليوبوليس، وفكرة الخراب العام عندما ينعكس على مصائر الأفراد بقسوة هي نفس الفكرة التي يتردد صداها في الفيلمين، بل وفي فيلم "بصرة" لأحمد رشوان ضمن الموجة نفسها، أي موجة السينما الشابة الجديدة.
هذا الانعكاس يتمثل في "العجز عن الفعل" وهو ما يحكم تصرفات وأفكار الشخصيات المتعددة التي تظهر في الفيلم
العجز.. والشلل.. وانعدام الوزن، والإحباط، والدوران في حلقة مفرغة، كلها أحاسيس ومشاعر وحالات نفسية ترتبط بالتحولات العميقة التي وقعت في عمق المجتمع المصري والتي يرصد بعضها الفيلم ببلاغة شديدة ودون حاجة إلى افتعال "حبكة" معقدة، وباستخدام طريقة الدراما المفتوحة التي لا تصل إلى نهايات مغلقة محددة سلفا، فالتجربة اليومية في أرض الواقع نفسه، مفتوحة على اتساعها، ومحاولة اختراق الواقع بالفعل قائمة وممتدة بالفعل رغم كل ما يحيط بنا من قتامة.
أساس فكرة الفيلم هو ما حدث من تشوه: في الشكل الخارجي كما في العمق، في حي مصر الجديدة الذي كان يتميز بحداثته، وبأنماطه المعمارية الخاصة، والأهم، باختلاط الثقافات وانصهار الأجناس داخله: من اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن والشوام واليهود والمصريين، قبل زمن التحولات الدرامية العنيفة منذ 1952 التي أدت إلى نزوح الأقليات لأسباب متعددة يُختلف حولها تاريخيا بكل تأكيد، إلا أن المحصلة العامة أننا أصبحنا أكثر تعصبا لأنفسنا، وفقدنا روح التسامح، والقدرة على قبول الآخر، وصرنا نتشكك في الغريب "المختلف" بل ونعادي كل ما هو مختلف عنا حتى من بين أقراننا.
هذا المدخل الذي يتميز بطابع "نوستالجي" يأتي من خلال شخصية الطالب الجامعي "ابراهيم" (خالد أبو النجا) الذي يبحث في تاريخ الأقليات في حي مصر الجديدة.. يتسلح بكاميرا فيديو صغيرة، وجهاز تسجيل، ويتجه لاجراء سلسلة من المقابلات مع سيدة يهودية "فيرا" لاتزال تقطن في شقتها في مصر الجديدة، ترفض أن تغادرها ربما رغبة في أن تحافظ على ذكرياتها الجميلة خشية من أن تضيع في ضباب الواقع الحالي، وهي ترى أيضا أن الزمن لم يعد نفس الزمن، ولا الناس نفس الناس، ولا الدنيا مثلما كانت الدنيا!
وينتقل الطالب في عدد من المشاهد التسجيلية الطابع إلى شوارع مصر الجديدة وحوانيتها، لكي يجري مقابلات مع بعض العاملين في حوانيت الحي ورواد المقاهي، يسألهم عن الأجانب الذين كانوا، عن ذلك العصر وكيف كان، وكلهم يجمعون على أن الحياة والدنيا كانتا أفضل كثيرا من الآن
أساس فكرة الفيلم هو ما حدث من تشوه: في الشكل الخارجي كما في العمق، في حي مصر الجديدة الذي كان يتميز بحداثته، وبأنماطه المعمارية الخاصة، والأهم، باختلاط الثقافات وانصهار الأجناس داخله: من اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن والشوام واليهود والمصريين، قبل زمن التحولات الدرامية العنيفة منذ 1952 التي أدت إلى نزوح الأقليات لأسباب متعددة يُختلف حولها تاريخيا بكل تأكيد، إلا أن المحصلة العامة أننا أصبحنا أكثر تعصبا لأنفسنا، وفقدنا روح التسامح، والقدرة على قبول الآخر، وصرنا نتشكك في الغريب "المختلف" بل ونعادي كل ما هو مختلف عنا حتى من بين أقراننا.
هذا المدخل الذي يتميز بطابع "نوستالجي" يأتي من خلال شخصية الطالب الجامعي "ابراهيم" (خالد أبو النجا) الذي يبحث في تاريخ الأقليات في حي مصر الجديدة.. يتسلح بكاميرا فيديو صغيرة، وجهاز تسجيل، ويتجه لاجراء سلسلة من المقابلات مع سيدة يهودية "فيرا" لاتزال تقطن في شقتها في مصر الجديدة، ترفض أن تغادرها ربما رغبة في أن تحافظ على ذكرياتها الجميلة خشية من أن تضيع في ضباب الواقع الحالي، وهي ترى أيضا أن الزمن لم يعد نفس الزمن، ولا الناس نفس الناس، ولا الدنيا مثلما كانت الدنيا!
وينتقل الطالب في عدد من المشاهد التسجيلية الطابع إلى شوارع مصر الجديدة وحوانيتها، لكي يجري مقابلات مع بعض العاملين في حوانيت الحي ورواد المقاهي، يسألهم عن الأجانب الذين كانوا، عن ذلك العصر وكيف كان، وكلهم يجمعون على أن الحياة والدنيا كانتا أفضل كثيرا من الآن
هذه الرؤية التي تميل إلى نقد الواقع الذي زحف على مصر بأسرها منذ 1952، من خلال صورة مصغرة تتمثل في حي مصر الجديدة، تقدم بالتقاطع مع عدد من القصص الفرعية- الأساسية التي يتشكل منها نسيج الفيلم، لبعض الشخصيات لشباب يحاولون الإقدام على الفعل، أي فعل، حتى لو كان فعلا هروبيا يتمثل في رغبة المدرس الجامعي "هاني" في الهجرة إلى الخارج بعد أن غادر معظم أفراد أسرته منذ مدة البلد، ولم يعد يطيق العيش بمفرده رغم ارتباطه الشجي بالمكان.
وهناك الزوجان الشابان اللذان يبحثان عن شقة، وعن أثاث يصلح لها، لكنهما ليسا فقط عاجزين عن الوصول إلى تلك الشقة المنشودة حتى لمجرد الفرجة عليها، بل وعن اتخاذ قرار بشراء ثلاجة.
وهناك الفتاة التي تعمل في فندق لكنها توهم أسرتها في مدينة طنطا أنها سافرت إلى باريس، وتبعث إليهم برسائل تبدو كما لو كانت صادرة من فرنسا، وهي تعيش في وهم الاغتراب الكامل عن واقع لا يمكنها التكيف معه، بل إن نظرتها للسياح الأجانب تعكس احساسها الشخصي بالحرمان: النفسي والجنسي والحرمان من الحرية عموما رغم قدرتها الخاصة جدا، على الخروج مع احدى صديقاتها لاحتساء البيرة في إحدى الحانات التي لاتزال باقية في مصر الجديدة.
الزوجان الشابان عاجزان عن الوصول إلى شقة المدرس الجامعي الذي أعلن عن رغبته في بيعها، فموكب الرئيس يعطل الحركة في الحي لساعات، والطالب الجامعي "ابراهيم" يكاد يتعرض للاعتقال بسبب استخدامه كاميرا الفيديو في تصوير مباني الحي، فضابط الشرطة يقول له "إن التصوير في الطريق العام ممنوع بدون تصريح"، والسيدة اليهودية التي يستمع إليها في شقتها ترفض تصويره لها، بل وترفض تسجيل الحوارات على جهاز تسجيل وهو عاجز عن اقناعها بالعكس، وحبيبته تخلت عنه في ظروف تشي بالعجز عن التحقق، والمدرس الجامعي الذي يسعى للهجرة من البلد، عاجز أيضا عن بيع شقته، والجندي الذي يحرس الكنيسة عاجز عن الخروج بأي شكل من عزلته حتى لمعرفة ما يحدث داخل المبنى الذي يحرسه. وفي خضم احساسه الخاص بالوحشة والعزلة داخل ذلك "الكشك" الخشبي الذي يجد نفسه حبيسا في داخله، يلجأ إلى اقامة علاقة مع كلب ضال، يطعمه ويتسلى برفقته.
الانتقال بين الشخصيات يتم بشكل أفقي بحيث لا يؤدي إلى تصاعد في "الدراما" نحو العقدة ثم الحل، بل بغرض تكثيف حالة العجز التي يشعر بها الشباب في مصر اليوم، بأقل قدر من الكلمات، وببلاغة الصور والعلاقة بين اللقطات، التي قد تدفع إلى التأمل والتفكير
جاء المشهد الذي يدور بين ابراهيم وفيرا في شقة الأخيرة، وهي تقص عليه حكاية الأقليات في الحي من خلال مجموعة من الصور الفوتوغرافية المعلقة على جدار غرفة الجلوس وكيف كان حال مباني الحي، مشهدا يفتقر إلى الطزاجة، فهو يبدو مركبا من خلال معلومات من الكتب والصحف، كما نرى عادة في المسلسلات التليفزيونية التي تدور عن شخصية ما، فهي تردد معلومات، وهو يكملها لها، وهكذا، في محاضرة مباشرة يغيب عنها الحوار التلقائي البسيط. وكنت أفضل التوقف أمام بعض المباني القديمة بالفعل والسؤال عنها مثل "بالميرا" و"أمفتريون" وقصر البارون ومبنى البنك الأهلي.. إلخ
وربما شعرت ببعض الكاريكاتورية والمبالغة في رسم شخصية الطالب الجامعي الآخر، الذي يجلس طوال النهار على المقهى، يتخذ لنفسه سحنة أقرب إلى سحنة القوادين وتجار المخدرات بل إنه أصبح بالفعل واحدا منهم، وأصبح على استعداد لتقديم خدماته لكل من يطلبها، وهي شخصية ام بترها من الفيلم بشكل حاد، ولم أستوعب تقديم محل المصور من الداخل دون الخارج، حتى لو كان تصوير ما هو خارجه وما هو داخله قد تم في مكانين متباعدين.
ولم أجد أي حضور ما أو أهمية لشخصية الفتاة التي تقوم بها الممثلة الشابة ذات الوجه الأخاذ يسرا اللوزي، التي تشارك في كورال كنسي داخل الكنيسة، وكان بودي لو أن مساحة ظهور يسرا في الفيلم كانت أكبر في دور يناسبها، كما لم أستوعب فكرة إخفاء حقيقة أن الجندي يحرس كنيسة من البداية، بدلا من جعل المتفرج يتساءل طوال الوقت عن طبيعة المكان الذي يقف أمامه الجندي. وقد عجز صديقي الناقد الأردني عدنان مدانات عن إدراك هذه العلاقة، وكان الربط بين الرجل والكنيسة سيتخذ بعدا أكثر عمقا في سياق موضوع الفيلم، الذي يعرض ضمن ما يعرض، لغياب التسامح
وربما شعرت ببعض الكاريكاتورية والمبالغة في رسم شخصية الطالب الجامعي الآخر، الذي يجلس طوال النهار على المقهى، يتخذ لنفسه سحنة أقرب إلى سحنة القوادين وتجار المخدرات بل إنه أصبح بالفعل واحدا منهم، وأصبح على استعداد لتقديم خدماته لكل من يطلبها، وهي شخصية ام بترها من الفيلم بشكل حاد، ولم أستوعب تقديم محل المصور من الداخل دون الخارج، حتى لو كان تصوير ما هو خارجه وما هو داخله قد تم في مكانين متباعدين.
ولم أجد أي حضور ما أو أهمية لشخصية الفتاة التي تقوم بها الممثلة الشابة ذات الوجه الأخاذ يسرا اللوزي، التي تشارك في كورال كنسي داخل الكنيسة، وكان بودي لو أن مساحة ظهور يسرا في الفيلم كانت أكبر في دور يناسبها، كما لم أستوعب فكرة إخفاء حقيقة أن الجندي يحرس كنيسة من البداية، بدلا من جعل المتفرج يتساءل طوال الوقت عن طبيعة المكان الذي يقف أمامه الجندي. وقد عجز صديقي الناقد الأردني عدنان مدانات عن إدراك هذه العلاقة، وكان الربط بين الرجل والكنيسة سيتخذ بعدا أكثر عمقا في سياق موضوع الفيلم، الذي يعرض ضمن ما يعرض، لغياب التسامح
. حالة التمثيل
في التمثيل لفت نظري بشدة في هذا الفيلم أداء الممثلة التونسية سمية الجويني التي تتمتع بثقة كبيرة وحضور خاص مميز، وقد نجحت تماما في تجسيد شخصية "ريم" الفتاة اللعوب الجريئة التي تسعى لجر صديقتها "إنجي" إلى الاغتراف من الحياة واستغلال أي فرصة قد تسنح. وقد وقف لامخرج كثيرا في لقطات الكلوز أب التي اختطفها لتلك الشخصية الغريبة التي كانت أيضا في حاجة إلى تعمق أكثر.
وجاء أداء حنان مطاوع جيدا في حدود الدور الذي يتسم ببعض التكرار والمبالغة. وتحتاج يسرا بالتأكيد إلى تدريبات على الأداء الصوتي كما يحتاجه خالد أبو النجا الذي يعاني من مضغ الكلمات ربما بدعوى أن تلك هي "الواقعية" أو أنه هكذا يتكلم الشباب، ولو صدق هذا الزعم الكاذب الذي يروج له البعض، لما أصبح بيتر أوتول ممثلا كبيرا بفضل أدائه المتكامل: صوتا وتعبيرات بالوجه والجسد والحركة، ولما كان يصلح لتمثيل الشخصيات الواقعية.. لكننا لا نريد أن نرى أو نتعلم
وجاء أداء حنان مطاوع جيدا في حدود الدور الذي يتسم ببعض التكرار والمبالغة. وتحتاج يسرا بالتأكيد إلى تدريبات على الأداء الصوتي كما يحتاجه خالد أبو النجا الذي يعاني من مضغ الكلمات ربما بدعوى أن تلك هي "الواقعية" أو أنه هكذا يتكلم الشباب، ولو صدق هذا الزعم الكاذب الذي يروج له البعض، لما أصبح بيتر أوتول ممثلا كبيرا بفضل أدائه المتكامل: صوتا وتعبيرات بالوجه والجسد والحركة، ولما كان يصلح لتمثيل الشخصيات الواقعية.. لكننا لا نريد أن نرى أو نتعلم
وربما أنني أستبعد أيضا احتمال وجود فتاتين تحتسيان البيرة وتدخنان الحشيش على طاولة أمامية في "بار" في القاهرة اليوم كما نعرفها وكما أصبحت بفعل عملية "الترييف" المتواصلة وزحف العادات والأزياء والأشكال الريفية العتيقة على المدينة التي كانت بالضرورة أكثر تحررا واستيعابا للمظاهر الحديثة، فأصبح هناك اشتباك واضح للمناظر المتنافرة حتى في مصر الجديدة، وهو ما ألوم على أحمد عبد الله على تجاهل رصده في إطار رصد ما لحق بالحي من تدهور، وهو في صميم موضوع الفيلم.
لكن هناك طموحا لاشك فيه لتقديم سينما أخرى، مختلفة، تتميز بحساسية خاصة، سينما أكثر قربا من مشاكل شباب يعرفهم المخرج- المؤلف جيدا، ومحاولة لتقديم لغة سينمائية جديدة تبتعد عن الثرثرة والصراخ ورص شخصيات متعددة أمام الكاميرا في كادر واحد، فهناك على العكس من تلك الأنماط الشائعة في الفيلم المصري السائد، رقة في تعامل الكاميرا مع الشخصيات، وتركيز جميل على العلاقة بين الشخصيات والمكان، ونسيج مؤثر يربط ببلاغة بين الماضي والحاضر، يرثي حالة التدهور التي بلغتها مباني مصر الجديدة ذات الرونق القديم.
"هليوبوليس" أخيرا.. تجربة ربما لا تكون مكتملة تماما، إلا أنني على ثقة من أن أحمد عبد الله سيعثر بسرعة، على أسلوب خاص له، أكثر رسوخا وقوة في أفلامه القادمة، فهو مخرج يتمتع بالذكاء والطموح والموهبة، والأهم أنه يملك قدرا كبيرا من التواضع والرغبة في المعرفة أيضا
لكن هناك طموحا لاشك فيه لتقديم سينما أخرى، مختلفة، تتميز بحساسية خاصة، سينما أكثر قربا من مشاكل شباب يعرفهم المخرج- المؤلف جيدا، ومحاولة لتقديم لغة سينمائية جديدة تبتعد عن الثرثرة والصراخ ورص شخصيات متعددة أمام الكاميرا في كادر واحد، فهناك على العكس من تلك الأنماط الشائعة في الفيلم المصري السائد، رقة في تعامل الكاميرا مع الشخصيات، وتركيز جميل على العلاقة بين الشخصيات والمكان، ونسيج مؤثر يربط ببلاغة بين الماضي والحاضر، يرثي حالة التدهور التي بلغتها مباني مصر الجديدة ذات الرونق القديم.
"هليوبوليس" أخيرا.. تجربة ربما لا تكون مكتملة تماما، إلا أنني على ثقة من أن أحمد عبد الله سيعثر بسرعة، على أسلوب خاص له، أكثر رسوخا وقوة في أفلامه القادمة، فهو مخرج يتمتع بالذكاء والطموح والموهبة، والأهم أنه يملك قدرا كبيرا من التواضع والرغبة في المعرفة أيضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق