لنتذكر تلك الأمثولة ونحن نناقش مغالطة جماعة الأخوان حول قضية الديمقراطية .. فلقد دأب قادتها مذ أعلنوا نبذهم للعنف ، مستبدلين به العمل السياسي على القول بأنهم يقبلون الديمقراطية . وهو قول كان حريا ً بالترحيب ، لولا إردافه بشعار " الله غايتنا ، والقرآن دستورنا ، والرسول زعيمنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا " والحق أن هذا الشعار ربما كان مناسبا ً لأن تعمل به جمعية ٌ إسلامية في سياق الدعوة ، وهل يرفض مسلم أن يكون الله غايته ، والرسول زعيمه وقائده ، وأن يكون الموت في سبيل الله أسمى أمانيه ؟ بيد أن عبارة " القرآن دستورنا " هي التي تحتاج إلى مناقشة دستورية . فهلم إليها .
الدستور Constitution كلمة وافدة لم تعرفها اللغة العربية فيما قبل العصر الحديث ؛ حتى أن الفراهيدي والرازي وابن منظور والفيروز آبادي ( تباعا ً) لا يذكرونها البتة في معاجمهم تحت الجذر اللغوي " دست " . غير أنها ما لبثت حتى شقت طريقها إلى اللغة العربية بعد أن أصدر السلطان عبد الحميد أول دستور للدولة العثمانية عام 1876 حينئذ قامت بإثباتها المعاجم ُ الحديثة مثل محيط المحيط للبستاني، ومتن اللغة للشيخ أحمد رضا ، والمنجد للمعلوف ، ثم الموسوعة العربية الميسرة .. وتكاد جميعها أن تتفق على معناها القانونيّ الاصطلاحي ّ : مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها .
ضبط المصطلح
في كتابه الطريف " أخبار الزمان " سجل المسعودي ما ظنه تاريخ الأمم الغابرة ، وبغض النظر عن الخرافات التي لا تصدق والواردة بهذا الكتاب ( مثل وجود شجر كالفروج تصيح واق واق ! ومثل السمك الطائر في السماء ، ومثل امتناع آدم عن مضاجعة حواء لمدة 170 سنة بعد مقتل هابيل ...الخ) فإن تعبير الزمان في مفهوم تلك الثقافة القديمة إنما كان يعني التاريخ . ذلك ما اصطلح عليه المؤرخون وقراؤهم وقتها . على أن الفيزيائيين المعاصرين اكتشفوا أن الزمان ( الوقت ) مدمج في نسيج المكان غير منفصل عنه أو مستقل بذاته، فكان أن كرسوه كبعد رابع لأي جسم يتحرك في الفضاء . فاتحين الباب بذلك – ولو من حيث المبدأ - أمام إمكانية السفر إلى الماضي أو المستقبل ، عبر ما يسمى بالأنفاق الدودية بين المجرات . والمستفاد من هذا لموضوعنا أن المصطلح – أي مصطلح – لاغرو ُيبدل من عصر لعصر ، ومن ثقافة لثقافة ، بل ومن حقل معرفي لغيره من الحقول . كانت اللغة الفارسية تقصد بكلمة الدستور : الدفتر الذي تسجل به رواتب الجند .. لكن دولة إيران اليوم تعتمدها بالمعنى الاصطلاحي المعاصر كما بيناه في الفقرة السابقة .
والسؤال هنا لجماعة الأخوان المصرية : ماذا تقصدون بكلمة الدستور ؟ وهل يرتب القرآن الكريم مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ؟ هل يوضح ما إذا كان شكلها ملكيا ً أم جمهوريا ً ؟ هل يحدد طريقة معينة لاختيار رئيس الدولة ؟ بالتعيين أم بالانتخاب ؟ ولمن يكون حق التصويت ؟ لأهل الحل والعقد أم للشعب جميعه ؟ وهل الشعب هو الرجال حسب ُ أم الرجال والنساء ؟ وعند أي سن يكون لهؤلاء ممارسة ذلك الحق ؟ وهل يوافق القرآن الكريم على نظام سياسي أساسه التعددية الحزبية ؟ أم هو مع الاحتكار السياسي Monopoly وفق نموذج الاتحاد القومي الناصري ؟
القرآن الكريم لا يجيب على مثل تلك الأسئلة ، لسبب بسيط هو أنه ليس دستورا ً سياسيا ً حسب المصطلح الحديث . لنقل إنه المرشد والموجه للإنسان المسلم في المجالين الروحي والأخلاقي .. لكن الدولة إدارة وتبعات ومسئوليات تجاه رعاياها مسلمين وغير مسلمين في الداخل ، وتجاه غيرها من الدول إسلامية وغير إسلامية في الخارج . لذا فلقد صار لزاما على الدولة الحديثة أن تضـّمن دستورها بنداً يؤكد أن مبدأ المواطنة أساس لانتماء الجماعة الوطنية لها ، وآخر ينص على مساواة رعاياها في الحقوق والواجبات دون تفرقة بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون ، كما صار لزاما ً عليها أن تحمى حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير دون انحياز منها لأحد ، أو الوقوف بالضد على أحد . ومن الواضح والحال هكذا أن جماعة الأخوان لا يقبلون بدستور الدولة الحديثة ، بل يسعون لتفكيكه تمهيدا ً لإقامة الدولة الدينية ، تلك التي انهارت بسقوط الخلافة العثمانية في عشرينات القرن الماضي ، حين عجزت عن تحديث آليات حكمها ، وعن التعامل مع معطيات العصر وشروطه .
الأغلبية مفهوم محض سياسي
يلجأ الفكر الأخواني – بشطارة التاجر القديم – إلى خلط الأوراق الدينية بأوراق السياسة ، حين يركز ممثلوه على واقعة كون أغلبية المصريين مسلمين ، ومن ثم يعتبرون أنفسهم ممثلي الأغلبية ! دون التفات إلى الأوضاع الطبقية لهؤلاء المسلمين .. كأنما يكفي اشتراك الرأسماليين المسلمين في الديانة مع أجرائهم لكي تتطابق المصالح ، نسوق هذا مثالا ً لا حصرا ً على تنوع المواقف والرؤى والتوجهات السياسية بين الكتل الاجتماعية في العصر الحديث . فالطبقات والفئات الكادحة بمسلميها ومسيحييها لها مطالب متجانسة تختلف حتما ً عن غايات رجال المال والأعمال الذين يتكاتفون معا ً لا يعكر عليهم اختلاف دياناتهم . وهؤلاء وأولئك لا سبيل أمامهم لتحقيق مطالبهم سوى خوض المعارك السياسية.. كيف ؟ بإنشاء ( أو الانضمام إلى ) الأحزاب المعبرة عن وجهات نظرهم . وتقضي قواعد اللعبة السياسية الحديثة بحق الحزب الحاصل على أغلبية أصوات الناخبين في تولي مهام الحكم ، مع بقاء الأقلية في الملعب بهيئة معارضة شرعية تنشر أفكارها وبرامجها بين الناس لتكسب قناعاتهم وبالتالي تظفر بأغلبية أصواتهم في الانتخابات التالية ، فتشكل حكومة جديدة بينما تنتقل الحكومة السابقة إلى موقع المعارضة وهلم جرا .
ذلك هو مبدأ تداول السلطة في النظام الديمقراطي ، المبدأ المستند إلى آلية الانتخابات . ومن الواضح أن هذا المبدأ لم ينبثق قط من أرضية الدين ، بل هو حصاد للزرع السياسي الحديث في كل مكان من عالمنا المعاصر.
ثمة أمر فارق آخر ما بين مصطلحي الأغلبية السياسية ، والأكثرية المنتسبة لدين معين .. ففي ظل الواقع السياسي يمكن لشخص أن ينسحب وقت يشاء من حزبه ليلتحق بغيره ، بل ويمكن لأعضاء حزب بأكمله أن ينتقلوا لحزب آخر دون أن يصابوا بأدنى ضرر( حدث هذا بالفعل في مصر) لكن أحدا ً لا يغير دينه بمثل هذه البساطة .. ذلك أن الدين ثابت بينما السياسة متغيرة ، وكذلك الدساتير.
المغالطة الأخوانية الكبرى
على أن الانتخابات ليست سوى وسيلة لتحقيق حكم الشعب ، وذلك هو معنى كلمة Democracy التي هي كلمة يونانية ، لم تجد نظيرا ً لها في العربية ، فعـُربت على مضض ،و ُبنيت على المصدر الصناعي لتـُقرأ : ديمقراطية . وبنفس الشطارة التجارية الالتفافية ، ذهب الأخوان إلى إعلان قبولهم بالديمقراطية ، مادام معناها يظل منحصرا ً في الوسيلة ( الانتخابات لمرة واحدة وأخيرة ) دون الغاية التي هي حكم الشعب وسيادته ووعيه بنفسه كمصدر للسلطات . فأما الأخوان فيضمرون سلب هذا الوعي من الناس بشعارهم البراق : القرآن دستورنا ، قائلين بكامل الثقة " اسألوا الناس . اسألوا الأغلبية " قاصدين بذلك الترويج - في سياق أيديولوجيتهم - لمفهومهم المغالط عن مصطلح الأغلبية .
فماذا لو أن أغلبية الناس – تحت تأثير الدعاية الدينية الجارفة – قررت وبـ "حريتها" الانتخابية أن تأتي بالإخوان إلى موقع السلطة ؟ تتنازل عن حريتها السياسية ، وبهذا تنتفي حريتها الانتخابية أصلا ً ، ومن ثم تغدو عبارة " قررت بحريتها أن تتنازل عن حريتها..." غلطا ً لا غش فيه .
ولنقرأ ثانية ً أمثولة الفيلسوف أرسطو والرجل الذي من كورنثة ، والتي سقناها في مطلع المقال
مهدي بندق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق