لا ننكر أن المصريون كانوا ينظرون لقناة الجزيرة في بدايتها بشئ من الحسد فكيف لهذا الحضور الإعلامي عالي الاحترافية أن يخرج من بلد غير مصر التى بدأت قبل غيرها مسيرة الإعلام في هذه المنطقة من العالم ، والأكثر أن يكون ذلك الخروج الإعلامي من تلك الجزيرة الصغيرة قطر
في البداية سيطرت نظرة الإنبهار وما صاحبها من لوم للإعلام المصري اللذي اصبح في ذيل قائمة القنوات الإخبارية ، وبعد ذلك بدأ شئ من الشك يحيط بتمويل وأهداف القناة وأخيرا أصبح أكثر ما يسيطر هو الغضب خاصة بعد صفقة بيع قنوات اي ار تي الرياضية
ولكن لماذا قطر ولماذا الجزيرة؟
كان حكماء أوروبا في القرن التاسع عشر ينظرون لألمانيا البروسية على أنها جيش له دولة وبشئ من التشابه يمكنك النظر الى قناة الجزيرة على أنها قناة لها دولة ...هل جانبني الصواب في التشبيه؟ على الإطلاق فقطر التى لم يصل سكانها الى النصف مليون والمحصورة بين محيط معادي من وجهة نظرها قررت أن نظرية أمنها تقوم على كانت تفقده وهو معرفة الناس بإسمها فقد عانت قطر كثيرا من جهل العالم بأن هناك شئ على الخريطة يسمى قطر وبعد ذلك أو مصاحبا له استطاعت ان توفر باقي عناصر الأمن كلها عبر استضافتها لقاعدة السيلية الأمريكية بديلا عن جيش لا تملك مقومات إنشائه
وحتى لا يظن أحد أننى أخرج بعيدا عن الموضوع نذكر هؤلاء بأن حكام قطر منذ إنشائها يراودهم هاجس الإجتياح السعودي أو الإيراني بشكل أشبه ما يكون بالفوبيا ولكن كان لهم الحق كله في ذلك فحتى العربية السعودية لا تنكر ان قطر كانت جزءا منها وأن أميرها هو سعودي الأصل ولو أخذوا بنظرية رد الجزء الى الكل لعادت قطر الى العربية السعودية ، ومع غزو العراق للكويت أصبح المشهد بالنسبة للقطريين مريعا فما يحدث مع الكويت يمكن أن يحدث مع قطر
البحث عن نظرية أمن على مقاس قطر
ظلت قطر تطوف بحثا عن نظرية أمن تحميها فمن اقترابها من التجربة الناصرية محاولة الإحتماء بها الى خطب ود العربية السعودية الى محاولات محمومة لكسب ود الجار الفارسي غير مأمون العواقب لم تجد ما يسد حاجتها الى الأمن المنشود
وكان الحل عبر الأخذ بالنظرية حول الدور الجغرافي والتى تقول بأنه ليس من المهم حجم الدولة بالكيلومترات ولكن الأهم هو الدور الجغرافي لهذه الدولة
إسرائيل مارست هذه النظرية عبر دباباتها وطائراتها ولكن قطر لا تملك شعب قادر على مجرد الطموح الى ذلك كما انها لم تعتاد على خوض معاركها بهذه الكيفية في هذا المحيط وكان الحل في أن تشغل قطر حيزا من الفراغ اكبر من حجمها عبر محددات دور غير مفهوم يضخم من حجمها وليس أقرب لذلك من الإعلام ولم يكن هناك أمامها لعمل ذلك سوى الجزيرة
أين وجدت قطر قناة الجزيرة
كانت بريطانيا (العظمى ) في حاجة الى بوق إعلامي يستطيع مخاطبة شعوب كثيرة بلغات كثيرة وكان ذلك يتم عبر هيئة الإذاعة البريطانية –بي بي سي – التى امتلكت وسيلة لمخاطبة ناطقى العربية عبر اذاعتها الناطقة بالعربية لكنها مع الوقت أرادت تطوير عملها الإعلامي فأنشئت قناة البي بي سي الفضائية الناطقة بالعربية ولم يكن ينقصها العناصر البشرية التى كانت متوفرة لها من خلال منظومة الاذاعة البريطانية ، وقد بدأ العمل في محطتها الفضائية الجديدة بمشاركة استضافة فضائية من شركة أوربت التى سرعان ما دب الخلاف بينها وبين البي بي سي ليتوقف مشروع القناة الفضائية اللذي دشن عام 1995 وتوقف عن العمل عام 1996 و كان توقفها أشبه بتوقف ناقلة نفط ضخمة تملك طاقم متميز من البحارة ومحرك قوى لكن وقودها كان قد نفذ
في نفس الوقت كان هاجس الأمن الذي يمكن أن يتحقق عبر الشهرة وممارسة الدور قد تملك من قطر ووجدت ضالتها في القناة المتوقفة فهرع وزير خارجيتها وأحد أضلاع الإنقلاب الجديد في قطر لشرائها وإلحاقها بأحد المباني الصغيرة المجاورة لتلفزيون قطر الرسمي وهكذا عاد الوقود يضخ في محركات السفينة الضخمة ولم يكن باقيا سوى تغيير الإسم من البي بي سي العربية الى (قناة الجزيرة)
وهكذا كان الإنطلاق في عام 1996 مدويا فقد بدت الجزيرة كبيرة جدا سواء بالنسبة لحجم المبنى اللذي تشغله في قطر أو بالنسبة للدولة نفسها فأرشيف الوثائقيات الخاص بالبي بي سي اصبح ملكا لها وكوادر البي بي سي المحترفة اصبحت كوادرها واصبحت القناة (تسليم المفتاح) التى اشترتها قطر كبيرة جدا بالنسبة للدولة التى تملكها لكنها في نفس الوقت جعلت الناس تعرف ان في هذا المكان من العالم دولة اسمها قطر
وبالنسبة لبرامج الجزيرة فلم يكن هناك حقيقة الكثير من الجهد المبذول لإبتكار هذه البرامج فقد قام فريق العمل بإستنساخ برامج البي بي سي مباشرة بنفس افكار البرامج ولكن في نسخة توائم المشاهد العربي اللذي كان ظهور الاطراف المتصارعة على الهواء مباشرة أمامه لأول مرة قادرا على أن يربطه لساعات أمام هذه القناة
وبظروف قطر والجزيرة فقد كانت العلاقات الناشئة بين قطر واسرائيل ما ظهر منها وما خفي كافيا لكي تجد الجزيرة مزيدا من التمويل عبر مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية السابق ديفيد كيمحى اللذي دخل كمساهم رئيسي في تمويل القناة
ومع الوقت استطاعت الجزيرة لا أن ترصد الأحداث بل وتؤثر فيها عبر احترافية عالية في العمل الاعلامي لكن اللافت للنظر ان هذه القناة ورغم الشعارات الكثيرة التى يتحدث بها منتسبيها كانت دائما ما تحاول الاصطدام بكبار المنطقة حتى لو كان ذلك دون مبرر ظاهر ولكن ووفقا للرؤية الاعلامية والهدف القطري من التمويل الباهظ للجزيرة كان ذلك منطقيا فعندما تصطدم الجزيرة بالدولة الام في الخليج وهي العربية السعودية تصبح محط انظار الجميع وعندما تصطدم مع مصر تصبح محط انظار الجميع
ورغم ان ذلك لم يكن كافيا إلا أن دولة كالعراق وسط ظروفها المأساوية قدمت للجزيرة خدمة العمر عندما طردت السي ان ان من اراضيها واصبحت القنوات الامريكية تنقل مباشرة عن الجزيرة ، ثم جاء الدور على بن لادن ليخصها بتسجيلاته هو الاخر
ومع بروز قنوات اخرى في المنطقة تحاول ان تناطح الجزيرة (رغم ضعف هذه القنوات في النهاية ) إلا ان الجزيرة وبخبرة بريطانية موروثة لا يمكن أن تركن إلى قوة موقفها الحالي كما أنها بحاجة هي والدولة المحتمية بالقناة الى رفع نسب المشاهدة بأي طريقة بصرف النظر عن الأرباح والخسائر الإقتصادية(متابعة بسيطة للجزيرة تخبرك أنها لا تعتمد على الإعلانات إلا بقدر ما يسمح لها بأن تقول أنها مستقلة) وهكذا كان انطلاق الجزيرة الرياضية التى لم تحقق نجاحا يذكر بتغطيتها للدوريات الأوروبية
وهنا كان الانقاذ عبر الرجل اللذي يحاول حل مشكلة ميراث الثروة بعد مماته
ميراث صفاء أبو السعود وصفقة بيع الايه ار تي
كانت قنوات الايه ار تي اهم شبكة قنوات عربية تعرض الفن والرياضة باللغة العربية وقد حققت نجاحا منذ بدايتها المفتوحة وانتهاء بقنواتها المشفرة
لكن البشر بكل تأكيد ليسوا أقوى من عوامل الزمن وهو ما كان يقلق الشيخ صالح كامل اللذي كان يبحث بشدة عن طريقة يجنب بها اولاده الصراع على ثروته وادارة قنواته خاصة أن له أولاد من زوجتين أحداهما السيدة صفاء أبو السعود ولهذا كانت فكرة (تسييل الأصول) حاضرة في ذهنه دائما في الفترة الأخيرة
وكما لو كان مسؤولي الجزيرة يقرأون الأفكار فقد فوجئ الشيخ محي صالح كامل نجل الشيخ صالح أثناء أحد معارض الميديا والفضائيات في فرنسا بأحد مسؤولي الجزيرة يفاتحه في أمر بيع مجموعة القنوات بكاملها لشبكة الجزيرة وبطبيعة الحال لم يكن يملك القرار لا بالرفض ولا بالقبول فطلب الى محدثه ان يمهله حتى يعرض الأمر على والده ، ومع احجام الامير الوليد بن طلال عن تلبية التوقعات التى كانت تنظر له على انه مشتري شبكة اي ار تي المنتظر في حالة تفكير الشيخ صالح في بيعها بسبب ظروف الكساد العالمي التى طالت عملياته التجارة لم يكن امام الشيخ صالح سوى القبول بالعرض المقدم من الجزيرة بعد بعض المماطلة النقاش حول الاسعار والشروط لكن الامر كان محسوما فليس هناك مشتر جاهز دائما لهذا النوع من المشروعات وقادر على شكل السداد النقدي اللذي قدمته الجزيرة للشيخ صالح وكان ان اصبحت الجزيرة تسيطر على اقوى عامودين من اعمدة الاعلام في المنطقة : الاخبار والرياضة مع وعد بإكمال باقي صفقة البيع لتشمل باقي قنوات الايه ار تي الاخرى
من ناحية الشيخ صالح كان الامر جيدا للغاية فقد اصبح في وضع يمكنه من تقسيم عوائد البيع الحالي والمنتظر بين اولاده من زوجتيه مع احتفاظ اولاده من صفاء ابو السعود بملكية قنوات الافلام واداراتها ، ومن ناحية قناة الجزيرة وقطر فقد تمددت مساحة قطر بضع كيلومترات اخرى بالصفقة واستطاعت ان تمارس ضغوطا على انظمة حكم كانت بالأمس القريب تخطب ودها سرا وعلانية
واللافت للنظر ان الكثير من اعلامي ايه ار تي قد انتقلوا مع الصفقة الى ملكية الجزيرة التى وجدت أنه من المناسب الاحتفاظ بهم خاصة ان المشاهد في هذه المنطقة من العالم شأنه في ذلك شأن المشاهد الامريكي يرتبط في كثير من الاحيان ليس ببرنامج او قناة بل بمقدم برامج معين دون النظر الى علامة القناة التجارية
ولعل ذلك واضح جدا في اذهان مخططي الجزيرة فبرنامج الاتجاه المعاكس يرتبط بكل تأكيد بدكتور فيصل القاسم الاعلامي السورى اللذي مارس أعمال الحدادة والكهرباء في بداية حياته قبل ان تلتقطه هيئة الإذاعة البريطانية ليعمل بها ثم تنقله مع ما انتقل من اصول الى قناة الجزيرة
ونفس الأمر بالنسبة للمذيع المصري الاصل أحمد منصور المؤذن السابق والصحفي السابق في احد مجلات الكويت غير المشهورة واللذي تدخل الشيخ القرضاوي شخصيا لتعيينه تجنبا لعودته لمصر التى لم يحقق فيها أي نجاح
وربما لم تخرج عن المألوف في المحافظة على الشكل غير المذيغة خديجة بن قنة الجزائرية الأصل والتى عملت بالتليفزيون الجزائري ثم هربت الى فرنسا من الجحيم اللذي تفجر في الجزائر لكن جنرالات الجزائر اللذين يحبون دائما أن يثبتوا لعناصرهم انهم مساندين لهم حتى النهاية وجدوا لها مكانا بأحد تليفزيونات سويسرا المحلية قبل أن تنتقل الى الجزيرة التى قضت بها بعض الوقت مثالا للأنوثة الطاغية قبل أن يظهر في حياتها الداعية المصري عمر عبد الكافي الذي اعتبر انه حقق انتصارا واختراقا عبر اقناع خديجة بالحجاب الذي ظهرت به على شاشة الجزيرة لتكسب مزيدا من المتعاطفين مع الجزيرة التى تسمح لمذيعيها بالتقرب الى الله بعكس القنوات الاخرى
الواقع ان قناة الجزيرة لا يمكن ان تناقش على انها ظاهرة قناة ناجحة بقدر ما يمكن ان تناقش بإعتبارها شكلا من اشكال المهارة الاعلامية البريطانية و التسويق الاسرائيلي الجيد الذي استطاع ان يجمل نظرية الامن القومي لدولة من الدول في كاميرا وميكروفون و اعلامي يعرف كيف يؤدي دوره
وأن كنا نعترف بإحترافية قناة الجزيرة ووضوح رسالتها الإعلامية في أذهان القائمين عليها لكننا يجب أن نعترف بأن آلة الإعلام المصرية وان اصابها العطب والصدأ تثبت أن (الكبير يمرض ولا يموت) بحسب تعبير معلق الايه ار تي سابقا والجزيرة حاليا عصام الشوالي.
لعبة الجزيرة بقدر ما هي جيدة ورزينة ومحبوكة للغاية إلا انها كانت مكشوفة جدا ..ربما لأن مصر لديها خبرة بدأت بإذاعة صوت العرب التى استطاعت مصر عبرها أن تتمدد الاف الكيلومترات قافزة على خلافتها مع الحكام ، وربما لأننا لسنا ملعب قطر الخلفي وربما لأسباب كثيرة لكن في النهاية عندما تكن مدركا ما يفعله غيرك و يصر على اتجاه حركته بكثير من الصلف والغرور معتبرا أنه سينتصر في معركة لم يحدد اسمها لكنها لا تخرج عن كونها تحقيق مكاسب على حسابك على طول الخط لا يكون أمامك إلا ان تقول له أو تقول للجزيرة : دي مصر يا هبلة
احدى الرسائل الموجهة من ضابط مخابرات سفارة العراق في الدوحة والتي يطلقون عليها تسمية (محطة الدوحة)الى قيادته في بغداد
«قمنا بادامة العلاقة مع السيد فيصل القاسم مقدم برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة الفضائية وتمت دعوته الى مسكني لتناول العشاء وفعلا حضر المذكور بتاريخ 2002/6/29 الى داري ومعه الرمز (جزيرة 2) وابنه وبحضور السيد السفير واقمنا لهم دعوة عشاء فاخرة حيث استمر اللقاء زهاء اربع ساعات، ابدى المذكور خلاله ارتياحه التام لنا وطلب منا الاستمرار في هذه اللقاءات وقد قدمت له في نهاية اللقاء هدية كانت عبارة عن (ساعتين رجالية ونسائية وعطرين من النوع الجيد نسائي ورجالي مع صندوق ويسكي وصندوق بيرة) وكانت لتلك الهدية ابلغ الاثر في نفسه وشكرني عليها».
وفي فقرة اخرى من الرسالة يقول مدير محطة الدوحة «أبدى استعداده لتسهيل اجراء مداخلة هاتفية في برنامجه «الاتجاه المعاكس» من داخل بغداد الى الدوحة وفي اي حلقة نرغب بها».
وفي الرد الذي من جهاز المخابرات وحسب احدى الوثائق المنشورة والتي تحمل «الموضوع/السوري الاصل فيصل القاسم»، تقول الوثيقة «حصلت موافقة السيد مدير جهاز المخابرات على ادامة العلاقة مع المذكور اعلاه من خلال محطة الدوحة» وان «المذكور يمثل فرصة استخبارية جيدة تخدم عملنا على الساحة القطرية» وانه «يمكن اجراء مداخلة على برنامجه في حالة استضافة أحد شراذم ما يسمى بالمعارضة لتعريتهم امام الرأي العربي والدولي». «ما زلنا مستمرين في ادامة العلاقة بالمذكور ونتهاتف معه على رقم جواله الذي زودني به بشكل شخصي اقترح تخصيص رمز سري له (جزيرة 5)».
صورة الوثيقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق