عمر سليمان يفتح الصندوق الأسود وإختفاء الكخيا أول الغيث
فى ديسمبر من عام 1993 كان المعارض الليبى «منصور الكيخيا» موجودًا فى القاهرة، لكنه فجأة اختفى.. تبخر تمامًا وكأنه لم يكن.. بحث عنه الصحفيون فى كل مكان.. تتبعوا كل الخيوط التى يمكن أن توصلهم إليه، لكنهم فشلوا جميعًا، كان طبيعيّا أن تطفو قصة اختفاء الكيخيا على السطح بعد سقوط القذافى.
عبدالرحمن شلقم صاحب الكتاب الأهم «أشخاص حول القذافى»، ووزير خارجية ليبيا الأسبق، قال إن منصور الكيخيا تم خطفه من دار السفير الليبى فى القاهرة، إبراهيم البشارى، الذى كان قد اشترى منزلاً فى العاصمة المصرية على النيل، قرب منزل أنور السادات، وإن مدير المباحث الليبية محمد المصراتى كان فى مصر، وتحدث مع الكيخيا هاتفيّا طالبًا منه موافاته إلى منزل البشارى ليتحدث معه.
طبقًا لرواية شلقم: «كان الكيخيا رجلاً مسالـمًا وطيبًا إلى حدود السذاجة، وافق على طلب البشارى والمصراتى، وذهب إليهما، حيث قبض عليه هناك، وسلم إلى الأمن المصرى الذى نقله سرّا إلى «طبرق»، حيث كان فى انتظاره عبدالله السنوسى (رئيس المخابرات الليبية)، فأركبوه طائرة ونقلوه إلى سجن «أبو سليم» الذى شهد المجزرة الشهيرة عام 1996».
ويؤكد شلقم أن هناك من يعتقد أن الكيخيا قتل فى المجزرة نفسها بعد سنوات من خطفه، كما أن هناك آخرين يقولون إن الكيخيا كان يعانى من أمراض السكر والقلب والضغط، ولم يتحمل جسده السجن فى الظروف القاسية خلال مذبحة قسم مجزرة أبو سليم.
تظل رواية عبدالرحمن شلقم على أهميتها مجرد رواية من الروايات الكثيرة التى حاولت استكشاف مصير الكيخيا، دون أن تقدم دليلاً إلا تقولات البعض.. والبعض الآخر.
لكن من بين الروايات التى لها ما يسندها ما قاله حسن صبرا، الصحفى اللبنانى، ورئيس تحرير مجلة «الشراع»، فى كتابه «جماهيرية الرعب» الذى يمكن أن يكون مرجعًا فى جرائم القذافى وعائلته فى حق ليبيا.
أهمية رواية حسن صبرا لا تأتى من كونها الأكثر تماسكًا بين روايات استجلاء منصور الكيخيا، ولكن لأنها تتهم وبشكل واضح اثنين من رموز عصر مبارك فى تسليم الكيخيا إلى القذافى لتصفيته جسديّا بمعرفته.. وهما السيد عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، ونائب الرئيس السابق.. والسيد عبدالسلام المحجوب، الذى كان كادرًا مهمّا فى المخابرات المصرية «كان نائبًا لرئيسها»، وخرج منها ليكون محافظًا للإسماعيلية، ثم محافظًا للإسكندرية.. ثم وزيرًا للتنمية المحلية قبل الثورة.
يقول حسن صبرا: يعتقد ليبيون، قابلناهم لاستيضاح مأساة خطف وزير خارجية ليبيا الأسبق، الدكتور منصور الكيخيا، أن المخابرات المصرية ساهمت مع المخابرات الليبية فى خطف هذا الرجل الدمث الأخلاق الذى نذر نفسه للعمل الديمقراطى من أجل خلاص ليبيا، ويقول بعضهم: إن القذافى أراد أن يخطف الكيخيا ليحصل على معلومات معينة ثم يتخلص منه.
أما المعلومات التى أراد القذافى أن يعرفها فهى أن الكيخيا أثناء وجوده فى الأمم المتحدة، بحكم منصبه الرسمى كوزير خارجية لليبيا، كان قد التقى مسؤولين أمريكيين، وعندما تخلى عن منصبه كان قد كوَّن شبكة علاقات واسعة مع المعارضين الليبيين، ونجح فى عقد مؤتمر يجمعهم فى واشنطن بتسهيلات من مسؤولين أمريكيين تحت عنوان «ماذا بعد القذافى؟».
كان معمر القذافى – كما يقول حسن صبرا – يعتمد على جواسيس كثيرين، خاصة من المنظمات الفلسطينية التى نجحت فى اختراق المجموعات الليبية المعارضة، كما يحدث مع مختلف أجهزة المخابرات العالمية، لتقديم معلومات عن كل من وما يريده، خاصة عن المعارضين الليبيين فى الخارج، ولكن بعد عمليات ترحيل المنظمات الفلسطينية من بيروت وتقييدهم فى تونس واليمن فقد القذافى مصدرًا مهمّا من مصادر معلوماته عن معارضيه.
كان مؤتمر «ماذا بعد القذافى؟» الذى عقده الكيخيا فى أمريكا مصدر قلق كبير للقذافى.. كما أن دور منصور فيه كان أمرًا مزعجًا للعقيد الذى كان مهووسًا بأمنه الشخصى.. ولم يكن أمامه بعد أن فقد مصادر معلوماته الواسعة إلا أن يخطف منصور الكيخيا ليعرف منه شخصيّا ما الذى دار فى المؤتمر الذى وضع خططًا لليبيا بعد نظام العقيد.
ويعتقد حسن صبرا أن القذافى لو كان يريد قتل الكيخيا فى القاهرة أو غيرها، لمجرد أنه خصمه، فإن الأمر كان سهلاً جدّا، خاصة أن الرجل «منصور» بحكم عضويته فى المنظمة العربية لحقوق الإنسان ومقرها فى القاهرة، كان كثير التردد على مصر، وكان يمكن تصفيته بوسائل عديدة عند إقامته فى فنادقها من خلال اقتحام غرفته، أو قتله أو دس السم فى طعامه أو تدبير حادث سير فى الشارع، أو بأى من أساليب المخابرات البريئة مظهرًا للتخلص من الخصوم.
لكن هدف معمر لم يكن قتل الكيخيا فقط.. ولكن قتله بعد أن يستمع منه إلى الخطة التى تم إقرارها فى مؤتمر واشنطن لمرحلة ما بعد القذافى.
نصل إلى بيت القصيد فى رواية حسن صبرا، يقول: «يؤكد معارضون ليبيون أن تعاونًا وثيقًا كان يربط مخابرات ليبيا خاصة بشخصى عبدالله السنوسى وموسى كوسى ببعض مسؤولى المخابرات المصرية، وخاصة كلاّ من عبدالسلام المحجوب وعمر سليمان برعاية كاملة من حسنى مبارك نفسه، وأن السنوسى وكوسى ترددا كثيرًا وقابلا مسؤولى المخابرات المصرية قبل خطف الكيخيا، وكانا دائمًا يلتقيان مع عبدالسلام المحجوب وبمعرفة الرئيس مبارك شخصيّا».
ويسأل حسن صبرا عن دافع خطف الكيخيا الحقيقى؟ ويجيب بأن معارضين ليبيين يرجحون أن عملية خطف الكيخيا وضعت خطتها أثناء أحد لقاءات السنوسى وكوسى مع عبدالسلام المحجوب، أو أنه تم استدراجه من فندق سفير فى منطقة الدقى فى الجيزة، حيث كان ينزل إلى عشاء فى منزل سفير ليبيا فى مصر إبراهيم البشارى «الذى قتل فى حادث سيارة غامض بعد ذلك» ومنه تم حمله فى سيارة دبلوماسية ليبية وجرى تخديره داخلها، ثم انطلقت ضمن موكب رسمى ليبى بمساعدة سيارة مخابرات مصرية رافقته إلى الحدود الليبية – المصرية، وأمنت دخولهم الأراضى الليبية، وأن المخابرات الليبية حققت مع الكيخيا، وحصلت أو لم تحصل منه على المعلومات التى تريدها.. ثم جرت تصفيته بعدها.
يستكمل حسن صبرا السيناريو الذى رسمه بناء على المعلومات التى حصل عليها من معارضين ليبيين، يقولون إن عبدالسلام المحجوب حصل بعد هذه العملية على ترقية، وخرج إلى التقاعد ليصبح محافظًا للإسماعيلية، وبعدها محافظًا للإسكندرية، قبل أن يصبح وزيرًا للتنمية المحلية بعد خدمته فى الإسكندرية لمدة عشر سنوات.
لا يترك حسن صبرا هذه الرواية دون أن يثبت ما قاله وزير خارجية ليبيا السابق عبدالرحمن شلقم فى حديث أجرته معه جريدة الحياة اللندنية بعد انشقاقه عن القذافى أثناء الثورة الليبية، حيث أكد أن رئيس المخابرات المصرية، عمر سليمان، كان رجل ليبيا فى مصر، وكان له دور فى إخفاء الكيخيا.
قد لا يشغلك مصير منصور الكيخيا.. ولا الطريقة التى قتله بها القذافى.. المؤكد أنها كانت طريقة وحشية، ثم إن عائلته لم تصمت بعد اختفائه، حاولت أن تعرف ما جرى له، لكن القذافى سوّى الأمر معهم، حيث منحهم فيلا كبيرة فى طرابلس جرى تأجيرها لسفارة أفريقية تدفع السلطات الليبية إيجارها كعادة التعامل الرسمى الليبى مع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث تدفع ليبيا إيجار سفارات العالم الثالث النامى.. وقد تحسن وضع عائلة الكيخيا بعد ذلك.. وهى تستقر الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية وتحمل جنسيتها.
لكن ما يشغلنا هو حقيقة اتهام عمر سليمان ومحمد عبدالسلام المحجوب بتصفية الكيخيا، كانا يعلمان أن تسليمه للقذافى – إذا كانا هما من سلماه بالفعل – يعنى قتله، ومع ذلك نفذا العملية التى قيل إن القذافى دفع فيها وزن الكيخيا عدة مرات دولارات.
لقد أعلن عمر سليمان أن لديه صندوقًا أسود لن يفصح عما فيه، ويبدو أن هذه العملية من بين أوراق صندوقه الأسود، ولابد أن يفصح عما جرى.. فلو أنه فعلها فمعنى ذلك أنه انحرف بمهام وظيفته فى جهاز المخابرات، فتسليم المعارضين وخاصة للقذافى الذى كان يدفع بسخاء أمر لا يتفق أبدًا مع أسس العمل الوطنى الذى يقوم به جهاز المخابرات فى دولة مثل مصر.
عبدالسلام المحجوب أيضًا لابد أن يتحدث، فالاتهام معلق فى رقبته هو الآخر.. فلو أن رواية صبرا هذه صحيحة فمعنى ذلك أن المحجوب هو من نفذ العملية بمتابعة من عمر سليمان ورعاية كاملة من مبارك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق