الجمعة، 21 مايو 2010

عندما تراجع أسامة أنور عكاشة عن فكرة القومية العربية


عندما تراجع أسامة أنور عكاشة عن فكرة القومية العربية

فلنجمع أشلاء مصر كما سبق وفعلت إيزيس
إيزيس تشرق بدموعها
أسامة أنور عكاشة / الأهرام - 20 /5/2007

تحكي أسطورة إيزيس وأوزيريس في الميثولوجيا المصرية القديمة‏,‏ كيف نذرت اوزويس نفسها للبحث عن أشلاء جسد أوزرويس زوجها وحبيبها الذي قتله ست الشرير ومزق جسده ليبعد أعضاءه اشلاء في أربعة أركان الأرض‏!‏ وراحت الزوجة الوفية العاشقة التي ترفض التسليم بموت أوزير تجوب السهول والوديان وتبحث في كل الأرجاء لتلملم الأشلاء وهي تبكي‏(‏ تقول الأسطورة إن دموعها هي التي شقت نهر النيل وفاض بها‏),‏ وحين اكتملت الأجزاء وصارت المزق جسدا كاملا دفنته إيزيس ليتحول الي إله خالد لا يموت‏!‏ 
ولعلي لا أبني علي فرض خيالي حين أزعم أن ترددات الأسطورة في الوجدان المصري القديم كان ملهما لعملية جمع أشلاء أخري قام بها الفرعون مينا ـ نارمر الذي أراد أن يوحد الولايات أو الاقطاعيات المبعثرة بين شمال مصر وجنوبها ـ ذلك الذي عرفته لنا كتب التاريخ المدرسي بالوجهين القبلي والبحري ـ
استطاع مينا أن يجمع أشلاء الوطن ويوحد القطرين ليقيم وطنا في مصر هو أقدم أوطان الأرض وينشئ في هذا الوطن دولة هي أعرق دولة في التاريخ‏..‏ ومن الوطن والدولة التي كونت أقوي سلطة مركزية عرفتها الشعوب ولدت الأمة المصرية‏!‏ 
هذه الأمة التي ينفي دراويش الفتح العربي عنها صفة الأمة الموحدة ويدعون ـ كذبا أو وهما ـ أن مصر الأمة لم تكن إلا بعد الفتح العربي‏,‏ لذا فلابد أن تلحق ـ قسرا واعتسافا ـ بقومية أخري تنفي المصرية أو تنحيها جانبا في أضعف الإيمان‏!‏ في حين أن وقائع التاريخ الموثق والثابت علي جدران المعابد والمسلات وبين طيات لفائف البردي تروي لنا كيف استطاع مينا قبل بزوغ عصر القوميات في القرون المتأخرة أن يدشن ميلاد القومية المصرية‏ .‏

وذلك قبل ثلاثين قرنا من قيام الوحدة الايطالية والوحدة الألمانية‏!‏ أي أن مينا‏..‏ المصري سبق بسمارك الألماني والثالوث الايطالي كافور ـ ماتزيني ـ غاريبالدي‏,‏ وأكد أن جمع أشلاء الوطن واقامة الدولة الموحدة هو استجابة للواقع الجيوبولوتيكي الذي يفرض هوية خاصة ومميزة لمواطني هذه الدولة‏!‏

في المقابل نري أن الواقع الجيوبولوتيكي لم يستطع فرض هوية وطنية خاصة ومميزة للمنطقة الواقعة بين سلسلة جبال أطلس وجبال طوروس وبين شمال إفريقيا وجنوب الجزيرة العربية‏...‏ لان مقومات الدولة الواحدة أو الموحدة غير موجودة وسمات الوطن الواحد غير متوفرة‏!..‏ ربما وجدت عناصر تؤكد وجود ثقافة عربية سائدة فهناك بلا شك وحدة ثقافية متحققة بالفعل وأهم تجلياتها ماثلة في وحدة اللغة واللسان والابداع الأدبي والفني‏...‏ كما تتشابه أنماط السلوك وبعض قوالب التفكير‏(‏ تتشابه ولا تتطابق‏)..‏

وربما كان هناك تقارب في المصالح‏(‏ تقارب وليس اتفاقا‏)..‏ وهذا التقارب لا يؤدي بنا لأكثر من التفكير في إنشاء نوع من مؤسسات التعاون الاقتصادي‏(‏ السوق العربية المشتركة مثلا‏)..‏ فهذا غاية المتاح‏,‏ وللأسف يتعذر ويتعثر عند محاولات التنفيذ‏,‏ ذلك أن هناك حقائق خشنة لا يريد الحالمون ودراويش المد القومي العربي‏,‏ وكنت واحدا منهم الي أن بدأت عملية المراجعة التي فرضتها علي الأحداث الغريبة والمدهشة للعرب الأمجاد ذوي الشان والشنشان بدءا من احتلال الكويت وعاصفة الصحراء وحفر الباطن ووصولا الي الحرب الأهلية في العراق ونذر مثيلاتها في لبنان

هذه الحقائق الخشنة تقول إن ما يطلق عليه العالم العربي منقسم في الواقع الي قسمين‏:‏
قسم غني ينعم بثروات النفط والغاز وقلة عدد السكان‏..‏ وقسم فقير يعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية متفاقمة وأزمات تضخم سكاني متفجر‏...‏ وعرب القسم الأول ينظرون بريبة وحذر الي دعاوي العروبة التي تعني في نظرهم إعادة توزيع الثروة النفطية‏..‏ ويبادلهم عرب القسم الثاني نظرات الغضب والحسد‏!‏ ويصبح علي أبناء القسم الأول أن يهربوا من مطالبات الوحدة أو الاتحاد أو أن يطلبوا هم من أبناء القسم الثاني أن يؤجروا لهم أوطانهم خصوصا تلك التي كانت ترود وتقود وتعلم حينا من الدهر‏..‏ ليعوضوا فيها مركبات النقص القديمة‏!.‏

ونبقي هنا في مصر مطالبين أمام أجيالنا القادمة‏,‏ أن ننفض عن أدمغتنا أضغاث أحلامنا القديمة التي همنا فيها زمنا مع مخدر تعاطيناه لدرجة الإدمان‏,‏ فصور لنا تلك الجنة السراب التي حلم بها أتباع حسن الصباح الذي كان يروضهم بالحشيش الذي يهيئ لهم في خدره الناعس أن المروج الخضراء المحيطة بقلعة الموت هي الجنة الموعودة التي تنتظرهم طالما امتثلوا وأطاعوا ونفذوا مهام الاغتيال‏!.‏

كالحشاشين في قلعة حسن الصباح كنا نحسب الأمة العربية الواحدة‏..‏ ذات الرسالة الخالدة ـ بنص شعار حزب البعث العربي الاشتراكي ـ والتي تبدو متاحة عبر مواكب الانتصارات حتي اعطيناها اسم الولايات المتحدة العربية وشربنا في صحتها أنخاب النشوة والثقة‏..‏ كما نحسب أنها الجنة الموعودة‏..‏ ما علينا إلا أن نقفز من أسوار الموت لنرتع في أحضانها‏...‏ وقد قفزنا‏..‏ فكانت المأساة‏!‏

نبقي هنا في مصر مطالبين أمام أبنائنا وأحفادنا بأن نفعل كما فعلت إيزيس‏..‏ فنجمع الأشلاء التي تبعثرت حين تمزقت فكرة الوطنية المصرية لتستبدل بانتماء مستعار لقومية مزعومة‏..‏ وعلينا أن نعيد لصق الأجزاء بالأجزاء لنبعث الكيان المصري من جديد‏...‏ ونعمده بدموع إيزيس التي ملأت النهر المقدس‏...‏

إن مصر تشرق بدمعها وتغص به وتهيب بنا أن نعود إلي أحضانها‏..‏ فقد تشردنا في المنافي‏..‏ وأعياها البحث عنا‏...‏ وها هي تنادي فهلا لبينا نداها؟‏..‏ أعلم أنني ربما فتحت علي نفسي بابا من أبواب الجحيم وأن هناك الكثيرين‏...‏ آلافا‏...‏ وربما ملايين قد يسلكونني في عداد المارقين الذين انقلبوا علي ذواتهم وخانوا أحلامهم القديمة وراحوا يسفهون أحلام الآخرين‏...‏ لكني لن أتنصل من مراجعتي ولو سميت تراجعا‏..‏.‏ وأتمثل هنا بقول الإمام الشافعي الشهير إن رأيي صواب يحتمل الخطأ‏..‏ ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.

هناك تعليق واحد:

ka3b3aly يقول...

كان راجل عظيم

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مرفوع من الخدمة
تصميم : يعقوب رضا