العالمي يوسف شاهين عرض الأمر كله في لقطة واحدة اختزلت الأمر كله في فيلم إسكندرية كمان وكمان حيث تصور تلك اللقطة بطل أفلامه المفضل (عمرو عبد الجليل اللذي يجسد شخصية محسن محي الدين) وقد تمرد على مخرجه وقرر أن يتجه للإخراج وأثناء تصويره لأحد المشاهد يتدخل المنتج الخليجي مرارا وتكرارا ليستبدل زجاجة الخمر –احد محرمات السينما الخليجية- بزجاجة عصير ثم يتدخل ليقلل من مساحة المكشوف من النساء في اثناء التصوير ناهيك عن التدخل في الحوار وكل ذل يتم بإشارات متعجرفة تعكس الجهل وصلافة التعامل
هل هذا ما يحدث حاليا بالفعل وهل المنتج الخليجي ذو الدشداشة العربية الشهيرة اللذي حيمل حقيبة دولاراته على ظهره ويبحث عن ربح سريع يضاف إليه سهرة حمراء وبعض الصور مع النجوم هو ما يحدث أم أن الوضع تغير؟
بكل تأكيد هناك تغير قد حدث فحتى وقت تصوير يوسف شاهين لفيلمه إسكندرية كمان وكمان كان الوضع اللذي سجله شاهين بسخريته الحالمة هو السائد على ارض الواقع فقد وضعت مجموعة من المحاذير كي يسمح تجار التسلية في الخليج بشراء او عرض المنتج المصري فمشاهد الصدور العارية وان كان يتهافت عليها المنتج ليراها في العرض الخاص إلا انها طبعا ليست من المسموحات اثناء التصوير كذلك العديد من العبارات التى يشتم منها من قريب او بعيد اي كلام في الجنس او السياسة او الدين ....وهكذا اصبح عليك وفقا لمعايير الرقيب والموزع الخليجي ان تبحث عن موضوعات لا تطرح كل المحرمات المذكورة وهو ما مثل صداعا مقيما لدى الكتاب والمخرجين وبشكل ما للممثلين
كان من الطبيعى اذن التوجه الى سينما باهتة ترضي الموزع الخليجي مصدر التمويل شبه الوحيد في هذه الفترة وكان من الطبيعى ان تنتج هذه الفترة بهذا الشكل من الاشراف الخليج مجموعة كبيرة من ما يطلق عليه سينما المقاولات حيث الفيلم سريع الانجاز الخالي من الموضوع اما الافلام التى بدأ تصويرها وكانت تنبئ بأنها جادة فقد حذف الكثير من مشاهدها اثناء التصوير او بعده وخرجت للجمهور مبتورة في كل الاحيان وغير مفهومة في معظم الاحيان
نأتي بعد ذلك للمشهد الثاني وهو عندما استطاع الخليجيين التوجه الى ممارسة الامر ببعض الذكاء وكان الامر يشبه الى حد كبير إنتقال الدول الاستعمارية من استخدام الاستعمار العسكري عبر الجندي والبندقية الى الاستعمار الاقتصادي عبر البنك والاوراق المالية
ولعل ابرز من جسد هذه الفترة هو الشيخ صالح كامل بشركته اي ار تي التى بدأت بتقديم نفسها للمواطن المصري كشركة مفتوحة غير مشفرة اجتهدت كثيرا لشراء تراث السينما المصرية ثم بدأت تعرضه بعد أن خضع للمقص الخليجي فأصبحت تندهش وانت ترى فيلما جري تصويره في الخمسينات او الستينات وهو يعرض محذوفا منه مشاهد بأكملها قد تجعلك عاجزا عن فهم باقي الفيلم ومسبوقا بعبارة للكبار فقط دون مبرر بعد ان حولوه الى فيلم هزلي صالح للأطفال
وبتحول شركة اي ار تي الى مستهلك للفيلم المصري اصبح المنتج المصري وهو في النهاية شخص او مجموعة من الاشخاص يمارسون عمل اقتصادي يهدف الى الربح في المقام الاول في اتقاء المحاذير التى تؤهله للعرض على شاشة قناة الشيخ صالح كامل كي لا يخسر زبونا مناسبا قبل بداية التصوير
وانسلخ الحال على المسلسلات والسهرات الدرامية وتطوع البعض فتشدد من تلقاء نفسه في تطبيق حزام العفة الخليجي على الفن المصري مما فرغه من محتواه
كان اللافت للنظر هو انفراد بعض المبدعين أمثال يوسف شاهين بقدرة غير عادية على طرح افكاره خارج موازين السوق لكن كان وراءه في ذلك انتاج مشترك فرنسي لم ينكره بينا اكتفي مبدعي السينما المصرية بمراقبة الوضع من خلف شاشات التليفزيون او من خلف نوافذ منازلهم بعد ان تحولوا الى عاطلين عن العمل وكاد الكثيرون منا ينسون أسماء مثل محمد خان و داوود عبد السيد فضلا عمن رحل بعيدا عن هذه الدنيا كعاطف الطيب او من اختار العمل بعيدا عن المجال الفنى تماما
وبعد زلزال حرب الخليج الثانية وجد الخليجيون انفسهم مضطرين الى ممارسة الأمر بشئ من الذكاء اكثر مما مارسوه من قبل فاتجهوا المشاركة في التمويل والانتاج او الانتاج بعيد عن المحاذير التقليدية للعقلية الخليجية فبرزت شركات هدفت الى السيطرة على الانتاج الفنى المصري دون ان تضع الدشداشة على رأسها وقد تبالغ ايضا فتقترب من الخطوط الحمراء التى يخشى البعض من الاقتراب منها لكن لم يدرك صناع السينما المصريون ان الخطوط الحمراء الخليجية قد تغيرت وانهم لم يحققوا انتصارا ولكن كل ما في الامر ان أنهم انتصروا على الممنوع في مخيلتهم فقط بعد ان سمحت به الميديا الخليجية في طريقها لوضع خطوط حمراء جديدة
هل اصبح الامر غامضا؟ نوعا ما فقد سمح رأس المال الخليجي عبر شركاته وعبر مشاركته في الانتاج بتناول مجموعة من المحاذير لم يكن مسموحا بها من قبل فقدمت السينما أفلام مثل (عمارة يعقوبيان) اللذي اظهر الشواذ جنسيا الى جانب الكباريه السياسي في الفيلم ولم يدرك السينمائيون المصريون انهم إنما اظهروا رئيس تحرير مصري في صورة الشاذ وانتقدوا بأعلى الصوت المسرح السياسي المصري والواقع الاجتماعي المصري دون ان يستطيع مخرج الفيلم ان يقترب من اي رمز خليجي او تابوه خليجي رغم انه يناقش فترة ومساحة زمنية لا يمكن تجاهل الدور الخليجي الفاعل وقتها واكتفي صناع الفيلم بالتغنى بعرضه في برلين وعلى هامش بعض المهرجانات بجانب فرصة عرضة في امريكا
ولعلك تجادلنى بأن نفس الشركة قد انتجت فيلم (ليلة البيبي دول ) لكن مشاهدة ناقدة للفيلم تخبرك أنه احد افلام الحركة في بعض منه ، واحد افلام الاثارة في بعض منه ، وفيلم لم يرصد المشهد السياسي إلا بقدر ما أتيح له ان يقدمه بعيدا عن اي نقد يوجه للخليج ودوره في الحرب او تحريضه عليها فكان ان افتقد كثيرا للمصداقية بينما المشاهد يشعر انه فيلم (ينقصه شئ ما ) وكان هذا الشئ الناقص هو انك تعرض فيلما يتحدث عن ازمة في محيط الخليج العربي دون ان نكترث طوال الوقت سوى للدور الامريكي والجدل البعيد عن لغة السينما الحقيقية في الحوار البطئ والفلسفي اللذي يحاول ان يمنح الفيلم بعدا لم يصل اليه بين نور الشريف الصحفي المصري و جميل راتب اللذي يمثل العسكرية الامريكية وكان من الطبيعى ان لا يصمد الفيلم رغم تكاليف انتاجه الضخمة في دور السينما كثيرا فقد اجاد صناعه على مستوى التقنية والانتاج غزير التكاليف تماما كما لوكنت تصنع مجلة من الورق المصقول ثم تجردها من محتواها وتنتظر من القارئ ان يشتري المجلة مبهورا بجودة الورق ودقة الالوان
ورغم الحديث اللذي دار لفترة طويلة عن قيام محمد هنيدى بتشخيص دور الخليجي في فيلمه الممول خليجيا (عندليب الدقي) إلا ان الفيلم بنظرة ناقدة له يقدم ما يريد للمشاهد المصري أن يصبح قناعته بصورة سلسة وناعمة عبر كوميديا مقبولة تتسلل تحت وعي المشاهد فهو يعرض الخليج على انه اخ شرعي للمصري وانه هو الحل الأكيد لأزمته الاقتصادية كما يعرضه بإعتباره مدافعا عن كل القضايا رافضا التعاون مع الشركات الصهيونية حتى لو ادي به الامر الى الخسارة العاجلة ، وهكذا ينتهى الفيلم بمشهد رغم سذاجته إلا انه يحاول عبر التكرار والإلحاح أن يجذر فكرة يراها العرب قد اصبحت عرضة للهجوم والنقد فنهاية الفيلم تعرض نجمه وقد دخل الى مطار القاهرة ومعه كثيرون يشبهونه لكنهم يرتدون ملابس مختلفة بعضها يعود للخليج او السودان أو أو ويحاول ان يقول بالصورة ما قال بالحوار وهو ان هناك ما يمكن ان نطلق عليه قومية عربية وان هناك تشابه وتطابق بين سكان هذه الدول وهكذا لم يكن هناك ضير من ان يتحمل الخليجيون بعض من النقد الساخر الفارغ المحتوى اثناء الفيلم اللذي شارك فيه ممثل خليجي لأنهم في النهاية استطاعوا أن يعرضوا دولهم بإعتبارها المنقذ وبإعتبارها تمثل الحلم لباقي الناطقين بالعربية فضلا عن الوطنية المفرطة التى ظهر عليها الاخ الخليجي الشقيق في تعامله مع (الصهيونية) العالمية وشركاتها.
بصورة أو اخرى كان الانتقال من استعمار الارض الى استعمار العقل مطروحا دائما سواء عبر الجرائد والمجلات الخليجية التى اجتذبت عددا من المثقفين الناطقين بالعربية لقاء مبالغ مرتفعة بالنسبة لسوق الصحف سواء في مصر أو الشام أو شمال افريقيا وكان بقائهم على قيد الكتابة مرهونا تلميحا لا تصريحا ببعدهم عن انتقاد اي شئ يثير غضب العرب وكان ذلك بمثابة جرعة مخدر للعقل في هذه الدول التى وقع عديد من مثقفيها في الفخ المنصوب بصرف النظر عن محتوى المقالات التى كانوا ينشرونها ولم ينتبهوا لذلك وربما لن ينتبهوا
ورغم انك من الصعب ان تجد وسيلة قيمة لنشر رأي يعارض الفكرة العروبية إلا عبر القليل من السبل المطبوعة التى يوفرها اليسار رغم قلة موارده أو عبر منافذه الالكترونية مثل موقع الحوار المتمدن بينما اذا اردت الكتابة او التعبير عن كراهيتك (للشعوبية) بالتعبير العربي وهي المرادف للوطنية ، او كان مرادك امتداح الفاتحين العرب فأنك ستجد العديد من المنافذ التى ربما حتى توفر لك مقابل كلماتك
نفس الأمر ينطبق على الابداع السينمائي فكيف تطلب من الناس معاداة مصالحها المنظورة والمضمونة من أجل الفن أو حرية التعبير ، والطريف أن ما لا يدركه الفنان المثقف ويدركه المنتج نصف المتعلم هو أين موقع هذا الفيلم أو ذاك من الخط الأحمر ، وبقدر حفاظه على بعده عن الخط الأحمر بقدر ما تتعاظم أرباحه ويجد طريقه نحو أسواق الخليج الذي يصر على إرتداء الفن لحزام العفة
طالع أيضا:
بيع ذاكرة السينما المصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق